الباب الثالث: دويلات الطوائف وملوك المغرب
الفصل الأول : دويلات الطوائف
* ثالثاً: الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس
* عام 458 هـ - 1066م الصراع بين نصارى الشمال:
* مات (فردْلَند) فردينالد ملك النصارى الذي كان قد وحدّ الدول النصرانية تحت حكمه، كان قد وحدّ الدول النصرانية تحت حكمه، وتوزعت مملكته إلى أولاده الثلاثة:
- سيطر "شانجة" أكبر أولاده على قشتالة، وسيطر الأوسط "ألفونسو" على ليون، بينما تفرد الأصغر "غرسية " بحكم "جيليقية " والبرتغال.
- طمع الكبير في ملك أخويه، فهجم على مملكة ليون وأخضعها بينما فرّ حاكمها أخوه ملتجئاً إلى "طليطلة "، التي يحكمها المأمون من بني ذي النون، فأحسن استقباله وأكرم وفادته ومن معه.
- أتاح ذلك لألفونسو أن يطلع على عورات المسلمين ويتعرف على إلى مداخل "طليطلة "، وقد مكث فيها تسعة شهور فعرف كل شيء عن طليطلة وهذه المعلومات كانت بداية لاحتلالها فيما بعد.
- والله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } آل عمران:118.
وتلك سذاجة ما بعدها سذاجة من المأمون حاكم "طليطلة "، وغفلة أن يُدخل العدو بلاد المسلمين يجول ويصول فيها بحرية من باب الإكرام من أولي الأمر.
النصارى في صراع دائم
* عام 459 هـ - 1067م توحد دول النصارى:
- وتابع شانجة تقدمه بعد أن بسط سيطرته على ليون، نحو مملكة أخيه الأصغر وانتصر عليه وضمّ إلى مملكته جيليقية والبرتغال، فوحدّ دولة النصارى كرة أخرى، بينما لا يزال حكام الطوائف في صراع لضم قرية أو لسلب منطقة من بعضهم بعضاً، ولا يزال القوي يعتلي على الضعيف، والكبير يبلغ الصغير.
* صراع بين دويلات الطوائف:
- قام ابن عباد فاستولى على مدن "قرمونة "، "مورو"، "أنكش"، و"رنده" حتى اضطر المظفر حاكم "بطليوس " أن يدفع الجزية لشانجة مقابل أن يحميه.
صالة من صالات القصور الإسلامية الخالدة في إشبيلية
* عام 461 هـ - 1069م إشبيلية تتوسع:
- لما توفي المظفر بن عباد، تولى الحكم من بعده ابنه الملقب بالمعتمد، وحكم إشبيلية عام 461 هـ، و إشبيلية مدينة مهمة، وهي قريبة من قرطبة التي كانت العاصمة قبلها، فتحرك المعتمد عام 463 هـ، بهجوم على قرطبة، واستطاع أن ينهي حكم بني جَهوْر، وضم قرطبة إليه وصارت لذلك إشبيلية أكبر الدويلات في الأندلس.
* عام 465 هـ - 1073م ألفونسو يتولى حكم النصارى:
- حادث صغير في مملكة النصارى يسبب أحداثاً جساماً فيما بعد، ومعظم النار من مستصغر الشرر، ذلك أن شانجة تحرك للاستيلاء على حصن سمورة التي كانت تحت إدارة أخته "أوراكة"، وبينما هو في الطريق وقعت عملية اغتيال له، ربما كانت بتدبير خصومه في عام 465 هـ، فقد اغتاله أحد الفرسان، فبقيت مملكة النصارى بدون ملك، فاستدعى ألفونسو الموجود في طليطلة لاجئاً لتولي الحكم، فرحل من طليطلة بالغبطة لما ناله وبالتكريم، ولم يطلب إلى حاكمها المأمون إلا الصداقة، وقطع له ما شاء من العهود، ولكن { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ } التوبة: 7، ولم يكن هذا كما قطع لنفسه.
- أصبح ألفونسو الآن ملكاً لقشتالة وليون وجيليقية دولة واحدة، وبعد مدة قبض على أخيه الأصغر "غرسية" الذي دعاه للتباحث معه، وأودعه السجن، فقضى بقية عمره في السجن لمدة سبعة عشر عاماً.
النصارى يستعدون للقتال
* ألفونسو يخطط للهجوم:
- "ألفونسو " ذاك الطريد عن مملكته، اللاجئ في طليطلة أصبح حاكماً بأمره في دولة إسبانيا النصرانية! ثم ازداد عتواً وجبروتاً في أرض الأندلس، وتظهر درجة طغيانه في حادثتين:
الأولى: الهجوم على إشبيلية.
الثانية: الهجوم على قرطبة.
- كان ألفونسو قد أجل هجومه على طليطلة ولكنه أشغل نفسه بمهاجمة أريافها ومزارعها وذلك لمعرفته بقوة حصونها، وشدة بأس أهلها، يريد بعمله ذاك إضعاف طليطلة والتمهيد لاحتلاها وإسقاطها.
* عام 465 هـ - 1073م مطالب ألفونسو من أشبيلية:
- أرسل ألفونسو وفداً إلى إشبيلية في عام 465 هـ يطلب من المعتمد بن عباد حاكمها أن يؤدي إليه الأموال التي تعهدها له، بالإضافة إلى زيادة الضرائب التي ينبغي أن تُجمع له وترسل فوراً.
- سمح المعتمد لزوجة ألفونسو التي جاءت مع الوفد وهي حامل أن تستقر في قرطبة ثم تضع مولودها في جامع قرطبة الكبير لإشارة القساوسة والرهبان التي تقول: إنه وُلد وَلدٌ له في أكبر مسجد للمسلمين فسيبلغ ذاك الوليد شأناً كبيراً.
* المفاوضات تفجر الوضع:
- جاء هذا الوفد وكان يرأسه وزير ألفونسو "ابن شاليب اليهودي"، ونزل خارج إشبيلية يطالب المعتمدَ بما سبق، فأرسل المعتمد إليهم وزيره "أبو بكر بن زيدون" (ابن الشاعر الشهير صاحب ولادة)، فأساء الوزير اليهودي أثناء المفاوضة والمداولة، واشتط في محادثاته، فما استطاع المعتمد أن يتقبلها إذ للذل درجةٌ وللهوان مرتبة، فغضب غضباً شديداً ورفض رفضاً قاطعاً، فأرسل سرية قتلت اليهودي فصلب في قرطبة، كذلك قتلت كل من معه- وكانوا خمسمائة رجل- إلا ثلاثة ليبلغوا الخبر إلى ألفونسو بأن عباد يرفض كل طلب لك وهذا جوابه: قتلُ الوزير اليهودي ومن معه.
وزراء المعتمد يخبرونه بمطالب النصارى وأسلوبهم المذل بالمفاوضات
- ولعل هذا من حسنات ابن عباد إضافة إلى كرمه وشهامته فهو وإن أضاع ما أضاع وفعل ما فعل منعته العزة الإسلامية والعربية أن يلبي مطالب ألفونسو.
لا ترهقوا العرب فالعرب الكرام لهم وإن أرهقوا وثبة الضرغام غضبانا
* فتوى العلماء:
- ويروى أنه لما سكن غضبه، استفتى الفقهاء عن حكم ما فعل مذكراً معنى الحديث أن الرسل لا تقتل.
- فبادره أحد الفقهاء بالرخصة في ذلك لتعدي الرسولَ حدودَ الرسالة إلى ما استوجب به القتل، إذ ليس له ذلك، ثم التفت هذا الفقيه إلى بقية الفقهاء قائلاً: إنما بادرت بالفتوى خوفاً أن يكسلَ الرجل (ابن عباد) عما عزم عليه من منابذة العدو، وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجاً.
* حصار إشبيلية:
- ولما وصل النبأ إلى ألفونسو أقسم أن ينتقم بشدة، فجهز جيشاً واحتشد عنده من جميع الممالك النصرانية، فأرسل السرايا تعيث فساداً في المقاطعات الأندلسية تحرق كل شيء، وتدمر كل بنيان حتى وصل إشبيلية، وضرب الحصار حولها، ثم أرسل رسالة إلى المعتمد يطلب منه أن يسلم إشبيلية.
- فماذا يفعل ابن عباد؟ نعم ماذا يفعل؟ لم يتحرك أمير من أمراء الطوائف المتخاذلين – وهذه أكبر دويلة (إشبيلية) ستسقط أمام أعينهم، وسيحل الدمار بعدها على مدنهم هم ودويلاتهم، ولكنْ:
أهيبُ بقومي إلى المكرمات وما من ملبَّ وما من مجيبْ
النصارى يطوقون ويحاصرون إشبيلية
* مروحة المرابطين:
* أرسل ألفونسو إلى المعتمد برسالة يقول له فيها:
- كثر بطول مُقامي في مجلسي الذبان (الذباب)، واشتد عليّ الحرّ فألقِ إلي من قصرك بمروحة أروّح بها على نفسي، وأطرد بها الذباب عني.
- لكن الردّ الذي أرسله ابن عباد ما كان ببال ألفونسو، وجعله يفك الحصار وينسحب، فماذا كتب ابن عباد:
كتب على ظهر رسالة ألفونسو: قرأت كتابك، وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية "اللمطية: أرض لقبيلة من البربر بأقصى المغرب كانوا يصنعون الجلود شديدة القساوة." في أيدي الجيوش المرابطية تروّح منك لا تروّح عليك إن شاء الله.
- ولما ترجمت له هذه الرسالة، أطرق ألفونسو برأسه وقد فهم إشارة ابن عباد: (أي أن ابن عباد سيطلب مروحة من المغرب العربي حيث توجد دولة المرابطين الإسلامية، أي أنه سيستنجد بالمرابطين إن لم يفك ألفونسو الحصار) فقرر الرحيل خوفاً من إدخال جيوش المرابطين على أرض الأندلس فتقلب الموازين لصالح المسلمين { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً } الأحزاب: 25.
المرابطون يحصنون الثغور والوديان
* عام 467 هـ -1075م استقلال بلنسية:
- توفي المأمون بن ذي النون في عام 467 هـ، وخلفه حفيده الملقب "بالقادر بالله" في حكم طليطلة، وكان من أسوأ الحكام الذين مرّوا بالأندلس من دويلات الطوائف، وكانت مدينة "بلنسية " تابعة لدويلة ذي النون في طليطلة، فلما مات المأمون أعلن حاكمها "ابن روبش" محمد بن عبد العزيز الذي كان وزيراً للمأمون هناك انفصاله عن القادر واستقل بها.
* عام 468 هـ - 1076م اتحاد سرقسطة ودانية و بلنسية:
- وفي العام التالي ضم بنو هود (الذين كانوا يحكمون دويلة في سرقسطة) دويلة "دانية"، واتصلوا "بابن روبش" لضم بلنسية إلى سرقسطة، إذ تزوج "أحمد المستعين بن المؤتمن" من ابنته، ولم يلبث أن توفي "ابن روبش"، واتفقت الدويلتان أو اتحدتا.
أدوات الكتابة للخط العربي، علم اشتهر به العرب فساعدهم في تدوين الكتب العلمية القيمة
* عام 470 هـ - 1078م تهديد طليطلة:
- بدأ ألفونسو شغله الشاغل للاستيلاء على طليطلة بدءاً من عام 470 هـ بالإغارة على أراضي مملكة طليطلة ومزارعها، فحرق ودمر محصولاتها، واستمر على ذلك سبع سنوات كاملات لينهك قواها، ويضعف إمكاناتها شيئاً فشيئاً.
* عام 472 هـ - 1080م خلع القادر حاكم طليطلة:
- شعر أهل طليطلة بإهمال القادر بالله للمدينة، وبعدم الاستعداد الكافي للدفاع عنها وإبعاد الأخطار من حولها، فتشاور الأعيان فيما بينهم وقرروا أن يستعينوا بالمتوكل على الله حاكم "بطليوس" وكان صالحاً قام بما يجب عليه، مثلاً في الغيرة والنجدة، من أهل الرأي والحزم، شهماً شجاعاً، فأعان هذا أهل طليطلة بحيث تخلصوا من سلطة القادر الذي استعان بألفونسو يطلب المدد، فخلعوه عام 472 هـ، وأعانه ألفونسو فأعاده إلى حكم طليطلة مرة أخرى بعد عشرة أشهر من خروجه.
* عام 474 هـ - 1082م ألفونسو والمتوكل حاكم بطليوس:
- أرسل ألفونسو إلى المتوكل يطلب إليه دفع الجزية وبعض القلاع والحصون ويهدده تهديداً مروّعاً إن لم يقبل ما عرضه عليه، ومع أن بطليوس دويلة صغيرة وليس لديها من القوة ما تستطيع به دفع العدوان المتوجه إليها من ألفونسو، إلا أن هذا الحاكم الصالح (ولم يكن والِ أفضل منه من حكام دويلات الطوائف) ردّ على تهديد ملك قشتالة وليون وجيليقية برسالة قوية رغم صعوبة موقفه قال فيها:
* رسالة المتوكل:
- وصل إلينا من عظيم الروم كتابُ مُدّعٍ في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ويفرّق، ويلبّد بجنوده الوافرة وأحواله المتظافرة، ولو علم أن لله جنوداً أعزّ بهم كلمةَ الإسلام، وأظهر بهم دينَ نبينا محمد عليه السلام، أعزّة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون، بالتقوى يعرُفون، وفي التوبة يتضرعون، ولئن لمعتْ من خلف الروم بارقةٌ فبإذن الله، وليعلم المؤمنين، وليَميَز الخبيث من الطيب، ويعلم المنافقين.
- أما تعييرك للمسلمين فيما وَهِيَ من أحوالهم فبالذنوب المركوبة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك علمت أيَّ مصاب أذقناك، كما كانت آباؤك تتجرعه، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك أهدى ابنته إليه مع الذخائر التي كانت تفد كل عام إليه، وأما نحن وإن قلَّت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه، ولا صعب نرَّوضه إلا السيوف تشهد بحدّها رقابُ قومك، وجلاد تبصره في ليلك ويومك، وبالله تعالى وملائكته المسوّمين نتقوّى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، نصرٍ عليكم فيا لها من نعمة ومنة! أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة! وفي الله العوَض مما به هددّت، وفرج يقتر بما مددت، ويقطع فيما أعددت.
- لم يكن عهد الطوائف يخلو من إشراقات وضاءة، والمتوكل نموذج مضيء.
- رفض أن يستذلّ، على ضعف من دولته وقلة حيلته، ونزر أسلحته، وعدد رجاله، ولكن أبت شهامته أن يستخذي للطاغوت، وما كان من حكام الدويلات الطائفية مثله أحد.
الحركة التجارية ازدهرت ضمن الحكم الإسلامي
* عام 474 هـ - 1082م انقسام سرقسطة:
- وفي عام 474 هـ يموت أحمد المقتدر بالله حاكم سرقسطة (عاصمة شمال الشرق) وهي دويلة صغيرة، فانقسمت إلى قسمين:
- يوسف بن المؤتمن وأخوه المنذر حيث بدأ القتال بينهما كل يريد أن ينال منطقة أخيه، واستعان المؤتمن على أخيه بالنصارى لقاء مبلغ من المال يدفعه لهم أو تنازل عن حصون، وقد أعانه النصارى على ذلك، فاستطاع المؤتمن أن يسيطر على دويلة أخيه في النهاية.
- ولا يتوانى النصارى من إضعاف الجبهة الإسلامية، وذا أمر مهم تسعى إليه السلطات النصرانية حثيثاُ، فكيف به يتحقق دون بذل بل يبُذل له، فأيّ حماقة تلك؟ أم أي إسفاف في شؤون المسلمين؟
صالات من القصور الإسلامية الخالدة في إشبيلية
* عام 474 هـ - 1082م الباجي يودع:
- شعر الباجي في عام 474 هـ باقتراب وفاته، فدعا علماء المسلمين في الأندلس واجتمع معهم وبينّ لهم أن ثلاثين عاماً من الدعوة والاستعداد جعلته ييأس من هؤلاء الحكام والأمراء والسلاطين حسب تعدد ألقابهم وأسمائهم. وأنه خلص إلى نتيجة واحدة فيها الحل، وهي أن على أهل الأندلس أن يرسلوا إلى دولة المرابطين في الشمال الإفريقي (ويبدو أن الباجي كان السبب الأول في دعوة المرابطين والاستغاثة بهم) وكان ذلك في مدينة "المرية"، فتوفي رحمه الله قبل تمام غرضه، بأن يرى أمة الأندلس واحدة، اجتمعت كلمتها كلها ضدّ العدو المتربص بهم في كل لحظة. رحم الله الإمام الباجي العظيم فهو ينصح للمسلمين حتى في آخر لحظات عمره، ويوجههم إلى الاستعانة بدولة إسلامية مجاهدة صادقة ففيها وحدها الأمل بعز الأمة والخلاص من أعدائها.
- يقول حجة الإسلام: العلماء ثلاثة: إما مهلك نفسه وغيره، وهم المصرحون بطلب الدنيا المقبلون عليها.
- وإما مسعد نفسه وغيره، وهم الداعون الخلق إلى الله سبحانه ظاهراً وباطناً، وإما مهلك نفسه، مسعد غيره، وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره وقصده في الباطن قبول الخلق، وإقامة الجاه. (إحياء علوم الدين ج3).
- وإن محاسبة الأمراء بالإنكار على أعمالهم المخالفة للشرع، أو أقوالهم المتناقضة مع الإسلام، لا تعني مطلقاً الإساءة إلى أشخاصهم، وإنما تعني تقويم اعوجاجهم، والسعيد من اتعظ.
- وقد حفلت الدولة الإسلامية في تاريخها الطويل بمآثر جليلة سجلها العلماء في مواقفهم الخالدة والفذة مع الحكام، أما في الجهاد ومقاتلة الأعداء فهم في مقدمة الجند وعلى رأس المتقدمين، فهم طلاب علم ومعلمين في السلم، جنود مقدامون في زمن الجهاد، أينما تبحث عنهم تجدهم.
- و الباجي من هؤلاء العلماء العاملين، جمع بين العلم الغزير والرجولة الحقة، من الصفوة الطيبة، من أهل المعرفة الحقة، والعالم الحق كما قال القائل:
إن الملوك لتحكم على الورى وعلى الملوك تحكم العلماء
- لقد قام الباجي بالذهاب إلى ملوك الطوائف من تلقاء نفسه، ورفع صوته فكان كمؤمن آل فرعون لو صادف أسماعاً واعية، لأن الذين مرّ عليهم يدعوهم فيها إلى جمع الكلمة والانتباه إلى المخاطر كانوا يجدونه في الظاهر، ويستثقلونه في الباطن، و يستبردون نزعته، لم يفد شيئاً (نفح الطيب 2\77).
- لكن دعوته أثمرت من بعده، إذ أصبح أهل الأندلس آخذين بزمام المبادرة في التوجه إلى استدعاء المرابطين كما رأينا، وقد أثارت الغيارى من الناس ونبهتهم إلى الأخطار والأعداء المتربصين.
- فالعالم قوام الأمة، ينذر ويبشر، ويرشد ويعلم، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وينصر المظلومين، ويمنع الظلم، ويبين طريق الفلاح والسعادة، ويدعو إلى التوحيد والقوة، ويدعو إلى جمع الكلمة ومواجهة الكفار و الأعداء قولاً وعملاً.
- وما أحوج ما تكون الأمة اليوم إلى علماء يتحلون بصفة العلم والعمل، والتقى والزهد والجرأة في الحق والصلابة في التمسك بالعدل، وحمل الدعوة إلى الإسلام لتطبيق نهج السماء في الأرض.