الباب الثاني: الدولة الأموية في الأندلس
الفصل الرابع: عهد الحاجب المنصور
رابعاً: غزوة شنت ياقب (سانت يعقوب)
* عام 387هـ -997م الهجوم على جيليقية:
- عزم الحاجب المنصور أن يقتحم "شنت يعقوب" عاصمة "جيليقية"، آخر معقل للنصارى في شمال غرب الأندلس وكانت منطقة وعرة وتعد من أخطر المناطق الأندلسية، لم يصل المسلمون إليها إلا أيام الفتح من عهد موسى بن نصير وطارق بن زياد، ثم خرجت من أيدي المسلمين، فقرر المنصور أن يعيدها إلى حكم المسلمين، إذ أيقن أنه من المحال تحقيق الاستقرار أو ضمان الهدوء في الأندلس مع بقاء "جيليقية" صامدة قوية، لذلك قرر أن يقتحم هذه المنطقة الصعبة، فوجود عشرات الأنهر مابين عاصمته قرطبة وبين شانت ياقب، تجعل العبور بالغ الصعوبة، بالإضافة إلى سلاسل الجبال الوعرة.
* عاصمة روحية:
- وكانت هذه المنطقة قاعدة روحية للنصارى في الأندلس أيضاً، إذ كانت منزلتها عندهم تأتي بعد القدس وروما، ومكانة كنيستها عندهم كمكانة الكعبة عند المسلمين – وللكعبة المثل الأعلى- احتلت الكنيسة في جيليقية هذه المكانة لوجود قبر هناك يزعمون أنه قبر "يعقوب الحواري" أحد حواريي عيسى عليه السلام، وأنه قد خرج من القدس يبشر بدين المسيح ويدعو الله حتى وصل إلى هذه البقعة، ولما مات بعد عودته إلى بلاد الشام، حمل أصحابه رفاته ليدفنوه في أقصى المكان الذي بلغه في دعوته، فدفنوها هنا ولقبت الكنيسة باسمه: "سانت يعقوب"، ثم بلغتهم "ياقب"، يحلف النصارى باسمه ويحجون إليه، ويعتكفون عنده.
* حملة برية بحرية:
- رأى المنصور أنه لا يمكن أن يصل إلى هذه البقعة إلا بالكتمان، كتمان استعداداته وطريق مسيرة ليأخذهم بغتة، وكيف ذلك؟ إذ لا بد أن تصل الأخبار إلى أهل "جيليقية" للأسباب التي ذكرت.
- أمر المنصور بإعداد جيش البر من مدينة "سالم" ثم ينطلق منها، وأن يعدّ الجيش البحري (الأسطول) من مدينة "قصر أبي دانس" وسيحمل الأسطول العدة والطعام، ومع الأسطول قوات الهندسة.
- وقد أخذ الاستعداد لهذه الغزوة وقتاً طويلاً، لأن الخطة التي رسمها المنصور قد نفذت بدرجة مذهلة في إطار حملة (برية بحرية) معاً.
- أمر المنصور أن تبدأ الحملة في الرابع والعشرين من جمادى الآخر عام 387 هـ وقاد بنفسه هو القوات البرية حتى وصل إلى نهر "دويرة" وأمر أن تدخل السفن في النهر وجانب المحيط الأطلسي، واصطفت السفن سفينة جنب أخرى حتى تشكل جسراً يمكن العبور عليه، ويتزود الجند مم فيها من الطعام.
- ابتكر الحاجب طريقة اهتدى إليها تفكيره ونفذتها قوة عزيمته، جيش بري يعبر جسوراً تشكلها السفن على عدة أنهر فانظر إلى الإبداع كيف يتفجر عندما الإرادة والعزيمة والطموح.
سفن الحاجب تعبر المضائق النهرية وتمون الجيش
* سلاح الهندسة:
- فتح في طريقه مدينة "بورتو" موضع التقاء القوات البرية والبحرية، ثم جازها، وكان سلاح الهندسة يوسع للجند الممرات الضيقة، ويردمون العوائق البسيطة، وعبروا الجبال إلى أن وصل الجيش إلى حصن بلاي ففتحه، ولم يكن المسلمون قد فتحوه من قبل، وأتم طريقه، يعبر السهول والجبال حتى وصل إلى حصن "شنت ياقب" في الثاني من شهر شعبان أي بعد مسيرة استغرقت أربعين يوماً تقريباً.
* المدينة الخالية:
- لم يكن سكان تلك المدينة يعتقدون أن المسلمين سيصلون إلى مدينتهم، لكنهم لما رأوا طلائعهم ووصلتهم أنباء تقدمهم أسقط في أيديهم، ففروا إلى الجبال وأخلوها بسرعة توازي سرعة تحرك الجيش الإسلامي، دخل المسلمون المدينة وليس فيها من أحد، بغير قتال يذكر، فجمعت الغنائم الكثيرة التي تركها أهل المدينة.
* تسامح وحزم:
- قرر المنصور أن يمر على القبر المقدس لدى النصارى هناك، فلما وصل إليه لم يجد أحداً سوى شيخ طاعن في السن عاكف عليه، فسأله الحاجب: ماذا تفعل هنا؟ فأجاب الشيخ الهرم: إني أؤنس صاحب القبر. فتعجب منه المنصور ومن وفائه لهذا القبر الذي لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، وصدق الله تعالى القائل عن من يعمل ويتعب وينصب وهو في الآخرة، {عَامِلَة ٌنَّاصِبَةٌ } الغاشية:3، فأعطى ابن أبي عامر أوامره بتدمير كل مصنع حربي، وإحراق السفن، وهدّ الأماكن الحصينة، دون أن يمس القبر أو الكنائس، ثم أمر بالرحيل والعودة وقد وصلت أخبار فتوحاته إلى روما والقسطنطينية.
* لا يأتي الزمان بمثله:
- قال الشاعر عن الحاجب المنصور (وقد كتبت فيما بعد على قبره):
آثاره تنبيك عن أخباره حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله أبداً ولا يحمي الثغور سواه
- وقد صدق فيما قال فيما يتعلق بمهمته وحرصه على الأمة ومجدها عندما نقارنه بالحكام الذين جاؤوا بعده.
خاض المنصور خمسين معركة، ولم تهزم له راية قط، وقد وطئت قدماه ما لم تطأه قدم معركة بلا يأس ولا قنوط ولا استسلام ولا راحة، فأي همة وأي طموح هذا.
الحاجب المنصور
* قصص رائعة:
- وإليك بعض القصص التي جرت في أيام الحاجب المنصور والتي تدل على ذكائه وهمته:
* الأسيرة:
- أرسل يوماً رسوله إلى ملك البشكنس زمن السلم والمعاهدة، إذ يعم الأمن وتتبادل السفارات، وكان من شروط المعاهدات بينه وبين ذاك الملك: ألا يبقى أسير مسلم في بلاده. ولما وصل الرسول إلى ملك البشكنس أكرمه إكراماً زائد، سمح له أن يتجول في مملكته كما يحب، وان يلتقي بمن يريد، فدخل هذا الرسول إلى كنيسة من كنائسهم، بينما هو هناك أقبلت إليه امرأة فكلمته، وعرفته بنفسها وقالت: أيرضى المنصور أن ينسى بتنعمه بؤسها؟ وزعمت أن لها سنوات طويلة في الأسر، هي وابنتها، وحلفت عليه أن يبلغ الحاجب المنصور شأنها.
- ولما قدم الرسول فأخبر المنصور بمشاهداته في تلك المملكة، وما لاقى من أمور، وما أعجبه وما لم يعجبه، وأخبر المنصور بكل ما رأى وسمع، فقال له المنصور: أو غير ذلك؟ قال: نعم، وذكر قصة المرأة الأسيرة، وسردها له.
- فقال له الحاجب: ويلك، كان ينبغي أن تقدم خبرها على كل شيء، ثم أعد الجيش مباشرة متوجهاً إلى بلاد البشكنس، اندهش ملكهم وأرسل يريد أن يعرف ما السبب؟ فاخبره الحاجب بأن هناك مخالفة صريحة لشروط الصلح والاتفاق، وذلك أن أسيرة مسلمة مع ابنتها مازالت مقيدة عندكم، فاستطلع الملك الخبر، وتتبع خيوط القصة حتى وجد تلك المرأة فأعادها مكرمة عزيزة إلى قرطبة، واعتذر للحاجب المنصور أيما إكرام.
- فإن وجد أسرى من المسلمين بيد الأعداء، فإن الولاية معه قائمة، والنصرة لهم واجبة، حتى لا تبقى في المسلمين عين تطرف، حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عدد المسلمين يحتمل ذلك، أو تُبذل جميعُ أموالهم في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم.
- هذا ما يقوله علماء المسلمون إن كان ذلك بيد العدو أسير مسلم، وعلى الأمة السعي لفكّ أسره الأقرب فالأقرب ثم الجميع.
منظر لكنيسة نصرانية في أرض الأندلس
* طابت لنا العيشة:
- وقصة أخرى أعجب من التي سبقت: غزا الحاجب المنصور بلاد البشكنس غزوة، فدخل فيها أعماق بلادهم، وأصبح وراء الجبال، وفي أثناء عودته سالماً غانماً وقد فعل الأفاعيل في أرضهم وأملاكهم، كان القوط النصارى قد تجمعوا في مضيق ضيق جداً وحازوا على أطرافه وهيئوا سبلاً كثيرة لمنع الحاجب المنصور وجنوده من عبوره، ومن أصعب المواجهات، مواجهة عدو تمكن من ممرّ إجباري.
- فماذا فعل الحاجب المنصور؟
- لم يقتحم، ولم يقاتل! بل اختار مدينة قريبة من ذلك المكان، فنزلها ووزع جنوده في أرجائه، يعملون ويحرثون، يبيعون ويشترون، ويقوم بكل متطلبات الحياة فيه، وبعث الحاجب الجند بالسرايا يميناً وشمالاً يقتلون ويأسرون ويغنمون، حتى ضج القوط من غاراتهم، وأرسلوا إليه أن اعبر المضيق أنت وجنودك، إلا أن المنصور رفض قائلاً: لقد طابت لنا المعيشة هنا وإن هذه البلاد جميلة، يطيب سكناه، وسأبقى إلى السنة القادمة، لأغزو في الصيف القادم إن شاء الله تعالى، وكان جنده يأتون بقتلى النصارى منهم ومن القرى في السرايا والغارات ويلقونها إمام الوادي، وحتى ضج سكان المنطقة إلى الذين في الوادي أن دعوه يعبر، فأرسلوا ثانية بذلك إلى الحاجب المنصور الذي قبل أن يمر عبر المضيق برجاله وذلك بشرطين:
1- أن يحمل النصارى ما معه من الغنائم والأسلاب على دوابهم أمامه.
2- وأن يقوموا هم بإزالة الجثث التي ألقاها على الطريق بفم الوادي.
- رضي القوط بذلك تخلصاً منه، وذلك هو العزم والحزم من المنصور رحمه الله تعالى.
تقويم في قرطبة
* الجاسوس:
- استقر الحاجب المنصور في إحدى غزواته بمدينة سالم وهو الثغر الذي بناه هو على حدود الدول النصرانية في الشمال، وخطرت له خاطرة تدل على مدى ذكائه وحسابه وتوقعاته، فاستدعى أحد فرسانه في ليلة شديدة البرد، كثيرة الأمطار، وكلّفه أن يخرج إلى مكان من المضيق سمّاه قرب هذه المدينة، وقال له: من مرّ بك في هذه الليلة تأتي به إلي ّكائنا ًمن كان.
- فاستغرب الفارس- في نفسه بالطبع- ومن يخرج في مثل هذه الليلة؟ البرد القارس والمطر الغزير.
- نفذ الفارس الأمر، وبقي يرصد الطريق يرجف من البرد تحت وابل المطر، وإذا بشيخ كبير من النصارى الذين كانوا يعيشون في هذه المدينة من أهل الذمة، على دابة ومعه آلة الحطب من فأس وحبل، فسأله الفارس بعد أن استوقفه: إلى أين أيها العجوز في مثل هذا الوقت؟ وماذا تفعل؟
- قال العجوز: أريد حطباً لأهلي ليستدفئوا، فتركه الفارس يواصل مسيره، لكنه تذكر أمر الحاجب المنصور وحزمه، فأوقف العجوز قائلاً: لابد أن تأتي معي إلى الأمير، قال: وماذا يريد الأمير مني؟ دعني أتابع سيري.
- إلا أن الفارس أجبره على المثول بين يدي الحاجب، فأمر بتفتيشه وتحري ملابسه فما عثروا على شيء مريب، لكن المنصور أمر بتحري بردعة الحمار، وبعد تحريها وجدوا فيها خطاباً من بعض النصارى القاطنين في جهة من هذه المدينة يدلون العدو على عورة من عورات المسلمين كاتبين: أن هجموا على مدينة سالم وعلى جيش المنصور من الجهة الفلانية-مكان سمّوه- ونحن سنساعدكم على تلك المباغتة.
- تملكت الدهشة الحارس، واستفهم من أميره: وكيف عرفت أن هذا الجاسوس سيمر في تلك الليلة؟ فقال: وهل تنتهز العيون (الجواسيس) إلا أمثالها؟ ومن ملك البلاد عليه أن يسهر لحمايتها وحفظه، ويعرف مداخل المتربصين به، فلما كان الصباح جمع أولئك الطابور الخامس، فأمر بضرب أعناقهم وكذلك عنق ذلك العجوز الحطاب الكذاب!.
* قارورة الغبار:
- أعد الحاجب المنصور لنفسه كفناً -إن مات يكفن به-من حلال كسبه، وكسب أهله، وكان قد أعدّ كما سبق قارورة- أو صرة قماش- فيها ما علق بثيابه وجسده من غبار الغزوات أو أثناء سيره إليه، وقد أوصى أن تدفن معه يوم وفاته في قبره لعلها تشفع له يوم القيامة.
- فكان عظيم الرجاء بالله سبحانه وتعالى أن يتقبل منه أعماله وبخاصة غزواته وجهاده، وقد قال صلى الله عليه وسلم:( من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ) رواه البخاري، وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً" هذه رواية النسائي، وفي الترمذي: "لا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم".
مصباح زيت من النحاس
* الراية المنسية:
- كان كلما غزا غزوة، رفع الجند الرايات، وحين ينزلون يثبتونها على الأمكنة العالية، فيأخذونها حين يرحلون، وقد صادف أن نسي أحد الجنود راية رفعت على تله بين عدة حصون كان المسلمون قد اقتحموها وفر أهلوها وجنود العدو منها إلى الجبال القريبة منه، أو تفرقوا بين شعب الجبال، وصار هؤلاء يراقبون الراية المنصوبة التي ترفرف للدلالة على العزّ ووجود الجيش من بعيد، ويظنون أن هناك قوّة باقية من المسلمين لتباغتهم إذا نزلوا إلى الحصون الخاوية، وهكذا أياماً إلى أن استيقنوا برحيل المسلمين جميعاً وأن هذه الراية منسية هنا، لذلك يذكر المؤرخون عنها باسم غزوة الراية.
- عزّ الراية المنسية، وأي عزّ، وكأنه مثل مخاطبة الرشيد للسحابة، ذلك يوم كنا أمة عزيزة.
باب العدالة في غرناطة
* محاكمة الوصيف:
- يضاف إلى ذلك العز والعظمة عدله بين الناس، والعدل أساس الملك، وبالعدل قامت السموات والأرض، وقد ذكرت عنه قصص عدة في عدله وقبوله للحق وسعيه له دون محاباة أحد، فمنها أنه كان جالساً ذات يوم في مجلسه إذا برجل من عامة الناس يطلب الإذن بالكلام فأذن له المنصور، فقال الرجل: إن لي مظلمة عندك، فقال المنصور: ومن ظلمك؟ فأشار إلى وصيف واقف عنده والوصيف هو " المحبوب الذي يُقرَّب من الرجل" ، فسأله الحاجب المنصور: هل اشتكيت إلى القاضي؟ قال: نعم، ولم يفعل شيئاً ولم أصل إلى حقي ولم يرفع عني المظلمة، فغضب غضباً شديداً إذ وجه كلامه إلى القاضي: يا عبد الرحمن، أعجزت أن تأخذ العدل، أو كنت مهاناً فلم تصل إليه؟ فقال له القاضي: هذا وصيفك، وكيف لي أن أقاضيه لمكانته عندك؟
- فما كان من المنصور إلا أن أمر ذلك الوصيف: أنٍ انزل، واخلع ملابسك وأزل الشارات والرتب، ففعل ذلك، ثم قال له: اجلس مع خصمك أمام القاضي.
- واستمع القاضي إلى الرجل وإلى الوصيف، فحكم على هذا الأخير بعد أن استمع إلى الشهود والأدلة، وأوصل إلى الرجل حقه وردّ عليه مظلمته.
- ثم أمر الحاجب المنصور بضرب ذاك الوصيف ضربا ًمبرح، فسئل: لم تفعل به هذا؟ قال: ما ظلم إلا لمكانته مني، وعليه أن يُعاقب لاستغلاله هذه المكانة.
* عام 390 هـ 1000م جهاد متتال:
- ومن غزواته أنه عندما نقض نصارى الشمال بقيادة "شانجة" العهود مع المسلمين عام 390هـ فتجمعوا و احتشدوا للإغارة على الدولة الإسلامية قرب جبال "الجرْبية"، فهب المنصور بذاته يقود جيشاً وأوقع بهم هزيمة نكراء قرب تلك الجبال، وكانت إمداداته تصل إليه من مدينة سالم ثم قفل راجعاً إلى قرطبة، ولكنه ما أن ينزل من صهوة جواده حتى يمتطي جواداً ليعود مجاهداً في سبيل الله.
منظر لمقبرة سلاطين الحمراء
* عام 392 هـ 1000م الموت مجاهداً:
- خرج من العاصمة وهو ابن الستين لغزو الشمال كرة أخرى حتى وصل إلى مدينة سالم ليعد العدة لغزوة أخرى، فجاءه الموت الذي هو نهاية كل حيّ، وهو على الفراش لمرض أصابه، وقيل بجرح أصابه كان به، وكان يدعو ربه راجياً أن يأتيه الموت وهو على طريق الجهاد، فمات رحمه الله في عام 392 هـ .
- توفي رحمه الله بعد جهاد يقرب من ثلاثين عام، وبعد أكثر من خمسين غزوة، ولم يتوقف عن البذل والعطاء، ورفع شأن الأندلس إلى مكانة لم تبلغها في عصر من العصور لا قبله ولا بعده، رحمه الله رحمة واسعة، وغفر له.
وأذكر هذه القصة لتدل على عظمته أول، ولما أصاب الأندلس بعد وفاته من مصائب الدهر، والتمزّق المدمّر لهذا المجد الذي بناه الحاجب المنصور.
* الكافر على قبر الحاجب المنصور:
- ذلك أن مولى المستعين بالله بن هود (وسيأتي خبر دويلة بني هود من دول الطوائف) يقول: لما توجهت إلى مقابلة "ألفونسو" وجدته في مدينة سالم، وقد نصب على قبر المنصور بن أبي عامر سريره، وامرأته متكئة إلى جانبه، فقال لي: يا شجاع (اسم المولى) أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين وجلست على قبر مليكهم؟ قال فحملتني الغيرة أن قلت له: لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه، ما سمع منك ما يكره سماعه! ولا استقر بك قرار! فهمّ بي، فحالت امرأته بيني وبينه، وقالت: صدقك فيما قال، أيفخر مثلك بمثل هذا؟
* اسم خالد:
- وذهب المنصور إلى لقاء ربه، وسيبقى اسمه خالداً مع أسماء الأبطال في تاريخ المسلمين، ولكلّ خصوصيته وشخصيته، وكلّ مجزيٌّ بعمله. و{ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } النساء134، وقد أشار بعض المؤرخين إلى أنه ربما كان ينوي غزو جنوب فرنسة وأوروبة، ويخترق جبال البيرينية.
منطقة نفوذ الحاجب المنصور في الأندلس
* الحاجب المنصور.. حقائق وعبر:
- إرادة لا تقهر وعزيمة لا تعرف العجل أو الكلل،، أكّار (أجير) لم يجلس به فقره عن طلب المعالي ولا منعته قلة ذات يده عن الطموح حتى إلى أعلى المناصب!!... رجل جاء من بين الطبقة المنسية الكادحة ليعلو سدة الحكم ويصبح حاكم الأندلس!!.....
- رجل أصبح بقصته دليلاً من أدلة التاريخ على أنه لاشيء يقف أمام الإرادة والعزيمة، ... رجل لم يصنعه نسبه ولا غناه، ولا رفعته عشيرته ولا قومه، بل صنع مجده بيده وعقله وأصبح رجل الأندلس الأول بحنكته وذكائه وجده، وقصة الحاجب المنصور كقصة عبد الرحمن الداخل لا تتركان ذريعة لمتخاذل أو متباطئ أو متكاسل، فإنه من صح عزمه وقويت إرادته فلا بد أن ينال غايته.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
- وهذه دعوة إلى كل شباب أو فتاة يبدآن حياتهما فإنهما لا بد أن يجدا مصاعب كثيرة وعقبات متتالية – وهذه سنة الله في الأرض – لكن ما ينبغي لكل هذه العقبات والمصاعب أن تحول دون طموحاتهم أو أن تثني عزمهم عما يصبون إليه، بل ينبغي أن تزيدهم إصراراً وتحدياً وليكن لهم في أمثال الحاجب المنصور أسوة وقدوة.
- لقد تسلم الحاجب المنصور مقاليد الحكم والدولة مشرفة على فتنة عظيمة، فاستطاع بقوته وذكائه وحزمه أن ينتشلها من نيران الفتنة ويعيد لها هيبتها وعزها، لكنه ربما في بداية أمره تجاوزه حد الحزم إلى الأخذ بالريبة والشبهة، كما فعل مع الوزير المصحفي، وهذه سلبية تؤخذ على الحاكم بل على كل إنسان يتعدى ظواهر الأعمال إلى خفايا النوايا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه حين قتل مشركاً شهد أن لا إله إلا الله: لمَ قتلته؟ فقال: خالد بن الوليد: إنما قالها خوفاً وجزعاً، فقال له نبي العدل صلى الله عليه وسلم: (أشققت عن قلبه؟) بل إنه صلى الله عليه وسلم ينقلها إلى الجهة الأخرى وهي تغليب العفو وحسن الظن فيقول: (ادرؤوا الحدود بالشبهات).
- وما أجمل قول معاوية رضي الله عنه حين بعث رسالة إلى أحد ولاته يخاطبه (لا تأخذن أحداً بجريرة غيره أو بتهمة لم تثبت فإنك لأن تخطئ بالعفو خير من أن تخطئ بالعقوبة).
- - ما ورد معه أن الحاجب المنصور كان يجمع الغبار العالق في ثيابه وأسلحته من آثار غزواته التي تجاوزت الخمسين، وأوصى أن تدفن معه لتكون شاهدة له عند الله تعالى يوم الحساب!! وإنا لنرجوا الله أن يكرمه بدفاعه ورفعه راية هذا الدين.
- لكننا نسأل أنفسنا ومن حولنا: ماذا قدمنا من عمل نقف به بين يدي الله عز وجل؟..هل هيأنا أنفسنا ليوم نقف فيه بين يدي مالك الملك فيسألنا عن كل ما قدمناه وما عملناه؟..وإن يوم القيامة ذو حسرات، فيا فرحة من جاء يوم القيامة وقد قدم صالحاً في دنياه...فيقول: يا رب جاهدت في سبيلك بالمال أو بالنفس أو بالكلمة، ويا رب: صمت وقمت وتصدقت رغبة ورهبة منك وفيك.
- ويا حسرة من جاء يوم القيامة وقد نسي لقاء الله وانغمس في الشهوات والمعاصي فيقول له رب العزة سبحانه كما ورد في الحديث: يا فل (اختصار فلان للإهانة والتحقير) ألم أكرمك وأزوجك وأسودك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى يا رب، فيقول له الجبار: أفكنت تظن أنك ملاقي؟! فيقول الخاسر: لا يا رب، فيجيبه الملك الديان: فاليوم أنساك كما نسيتني.
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار؟
الدار دار نعيم إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
رحمك الله يالحاجب المنصور فلقد رفعت رؤوس المسلمين ومرغت أنوف النصارى في ذلك الزمان أآآه ثم آآآه على بلاد الاندلس تحكم حكما إسلاميا ثمانية قرون ثم تضيع من يدي المسلمين بسبب ضعفهم وحبهم للدنيا والملك .
اين انت ايها القائد المغوار
رحم الله هذا القائد المسلم... المجاهد ...وإنا لنرجوا الله أن يكرمه بدفاعه ورفعه راية هذا الدين.