أطلس الحج والعمرة تاريخاً وفقهاً
القسم الأول: التاريخي
أولاً: مكة المكرمة والمشاعر المقدسة
الباب الأول:
الحج قبل دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام
* مدخل:
- جعل الله ـ عز وجل ـ البيت الحرام معظماً, وجعل المسجد الحرام فناء له, وجعل مكة فناء للمسجد الحرام, وجعل الحرم فناء لمكة, وجعل المواقيت فناء للحرم, وجعل جزيرة العرب فناء للمواقيت, كل ذلك تعظيماً وتشريفاً وتكريماً لبيته الحرام, قال تعالى:
( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) آل عمران 96-97.
- وفريضة الحج, ركن من أركان الإسلام الخمسة, التي بينها الرسول صلى الله وسلم, فعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان ). رواه البخاري.
- وقد فرض مرة واحدة في العمر على كل مسلم ومسلمة, فَعن أبي هُرَيرَةَ قال: خَطَبَناَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَال:( أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فَقَال رَجٌل: أكلَّ عَام يَا رسول الله؟ فَسَكَتَ. حتَّى قَالهَا ثَلاثاً. فَقَال رسُولُ الله:( لو قلتُ: نعم. لَو جبت. ولما استطعتُم ). ثمَّ قَالَ:( ذروني ما تركتكم فَإنَّما هَلَكَ من كان قبلكُم بكثرةِ سُؤالهم وَاختلافهم عَلَى أنبيائهم. فإذا أمرتُكُم بِشيءٍ فأُتوا مَاَ استطعتُم. وإذا نهتُكُم عَن شيءٍ فدعُوهُ ) رواه مسلم.
- والحج هجرة إلى الله تعالى ؛ استجابة لدعواته, وموسماً دورياً يلتقي فيه المسلمون كل عام على أصفى العلاقات وأنقاها؛ ليشهدوا منافع لهم على أكرم بقعة شرفها الله.
- وعبادات الإسلام وشعائره, تهدف كلها إلى خير المسلمين في الدنيا والآخرة, فالحج مظهر عملي للأخوة الإيمانية, ووحدة للأمة الإسلامية, حيث تذوب في الحج فوارق الأجناس, والألوان, واللغات والأوطان, والطبقات, وتبرز حقيقة العبودية والأخوة؛ فالجميع بلباس واحد, يتجهون لقبلة واحدة, يعبدون إلهاً واحداً لا شريك له.
* قصة بناء البيت الحرام:
قال تعالى:( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) سورة آل عمران الآية 96-97.
- تشير هذه الآيات المباركة بوضوح إلى أن أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله هو (البيت الحرام), وإلى ما في هذا من قدسية وحرمة, وما فيه من دلائل وبراهين, وآثار, منها مقام إبراهيم عليه السلام؛ فقد اختاره ـ سبحانه وتعالى ـ وفضَّله على كل بقاع الأرض؛ فجعله خيرها وأشرفها, وجعله حراماً؛ فلا يسفك فيه دم, ولا يُنفَّر صيد, وجعله قبلة لأهل الأرض جميعاً, ونهى عن استقباله أو استدباره عند قضاء الحاجة.
* أقوال القرطبي في بناء البيت الحرام:
• المسألة الأولى: ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: (المسجد الحرام). قلت: ثم أي؟ قال:( المسجد الأقصى ). قلت: كم بينهما؟ قال:( أربعون عاماً ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصلِّ ).
- قال مجاهد وقتادة: لم يوضع قبلة بيت.
- قال علي رضي الله عنه: كان قبل البيت كثيرة. والمعنى أنه أول بيت وضع للعبادة.
- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به, وكان هذا قبل خلق آدم, ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به, ثم الأنبياء بعده, ثم استتم بناءه إبراهيم عليه السلام.
• المسألة الثانية: قوله تعالى:( للذي ببكة ) خبر "إنَّ" واللام توكيد. و"بكة" موضع البيت, ومكة سائر البلد, عن مالك بن أنس. وقال محمد بن شهاب: بكة المسجد, ومكة الحرم كله, تدخل فيه البيوت. قال مجاهد: بكة هي مكة. فالميم على هذا مبدلة من الباء, كما قالوا: طين لازب ولازم. وقاله الضحاك والمؤرج, ثم قيل: بكة مشتقة من البك وهو الازدحام. تباك القوم ازدحموا. وسميت بكة لازدحام الناس في موضع طوافهم. والبك دق العنق. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم.
• المسألة الثالثة: قوله تعالى:( مباركاً ) جعله مباركاً لتضاعف العمل فيه, فالبركة كثرة الخير, ونصب على الحال من المضمر في "وضع" أو بالظروف من "بكة" المعنى: الذي استقر "ببكة مباركاً" ويجوز في غير القرآن "مبارك", على أن يكون خبراً ثانياً, أو على البدل من الذي, أو على إضمار مبتدأ. (وهدى للعالمين) عطف عليه, ويكون بمعنى وهو هدى للعالمين. ويجوز في غير القرآن "مبارك" بالخفض يكون نعتاً للبيت.
• المسألة الرابعة: قوله تعالى:( فيه آيات بينات ) رفع بالابتداء أو بالصفة. وقرأ أهل مكة, وابن عباس, ومجاهد, وسعيد ابن جبير "آية بينة" على التوحيد, يعني مقام إبراهيم وحده. قالوا: أثر قدميه في المقام آية بينة. وفسَّر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله, فذهب إلى أن من آياته الصفا والمروة, والركن والمقام. والباقون بالجمع. أرادوا مقام إبراهيم, والحجر الأسود, والحطيم, وزمزم, والمشاعر كلها.
• المسألة الخامسة: قوله تعالى:( ومن دخله كان آمناً ) قال قتادة: ذلك أيضاً من آيات الحرم. قال النحَّاس: وهو قول حسن؛ لأن الناس كانوا يتخطفون من حواليه, ولا يصل إليه جبار, وقد وصل إلى بيت المقدس وخرب, ولم يوصل إلى الحرم. قال الله تعالى:( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ).
- قال تعالى:( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) البقرة: 35-36.
- يطيب لنا عند مستهل الحديث عن أماكن بعثات الأنبياء والرسل عليهم السلام في أممهم وهو (هذا الباب), أن نستهل بأبي البشر آدم عليه السلام, ونختم بسيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.