الباب الثاني: الدولة الأموية في الأندلس
الفصل الثاني: عهد الأمراء الأمويين
ثالثاً: عبد الرحمن بن الحكم (الأوسط)
* لقب عبد الرحمن بن الحكم بالأوسط حتى يميز عن عبد الرحمن الداخل الذي سبق ذكره، وعن عبد الرحمن الناصر الذي يأتي ذكره فيما بعد.
- اختاره والده من بين إخوته لأنه كان تقياً عالماً، متميزاً من أهل الثقافة والأدب وسياسة الناس وكان عمره إذ جاء إلى الإمارة 30 عاماً، فواجهته مصاعب من الأحداث والثورات والاضطرابات.
* عام 206هـ - 821 م ثورة عبد الله البلنسي:
- ثار عليه عمه "عبد الله البلنسي" رغم تقدمه في السن لكنه يدفعه الطمع إلى الحكم إذ تمكن من منطقة "تُدمير" واجتمع إليه أنصاره، وكثر مؤيديه، فأدركه الأجل هناك، إلا أنه خلّف ثواراً وثورة دامت سبع سنوات، ولم يتمكن يحيى بن عبد الله والي المنطقة من السيطرة على الموقف، فأرسل عبد الرحمن الأوسط قائداً جديداً هو أمية بن معاوية أخمد الثورة وذلك بنقل العاصمة إلى "مرسية" وكان هذا سبباً من الأسباب التي أطفأت هذه الثورة، وسكنت الحوادث فترة منهم.
* عام 208هـ - 823 م ثورة القوط:
- وفي الشمال استغل القوط وتمردوا في المناطق الإسلامية فأرسل الأوسط أحد وزرائه هو عبد الكريم بن مغيث، وانتصر عليهم في مواقع عدة، وفك الأسرى المسلمين منهم، وهدأت الأحوال في الشمال وأوقف نشاط القوط.
البرج الذهبي في الحمراء ينبئك عن فخامة البناء
* عام 213هـ - 828 م ثورة البربر:
- ولكن توترت الأحوال من جديد، واضطربت الأمور في عام 213هـ إذ ظهر مَنْ يجمع البربرَ وهم غالبية يحبون الشغب ممن لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، ظهر رجل يدعى "محمود بن عبد الجبار بن راحلة" يقود البربر في ثورة مضطربة بمنطقة "ماردة"، ويرتكب حماقة أخرى إذ يتحالف مع "ألفونسو" حاكم القوط في الشمال الغربي وراسل الملك الفرنجي "لويس بن شارلمان"، أعدّ هذان العدوّان اللدودان العدد والمدد وأرسلاه إلى محمود ليتقاتل المسلمون، وكان القوط أصلاً يتبعون سياسة الاعتداء والتحرش كلما وجدوا لذلك مجالاً، وكانوا يثيرون في الواقع كل عاصٍ أو مخالف، ولا تختلف سياسة الفرنج عن سياسة القوط في الأندلس، ويلاحظ أنها الخيانة الثانية في الأندلس حين استنصر الثائرون بأعدائهم الفرنج أو القوط، وقبل أن يقوى أمر محمود أرسل الأوسط قوات متتابعة وجيوشاً متلاحقة لكنها أخفقت جميعاً في إطفاء هذا اللهيب الثائر الذي ألهب الأندلس من 213 - 218 هـ، لذلك قاد عبد الرحمن الأوسط بنفسه جيشاً جراراً ليدحض هذا التحالف القوطي الفرنجي مع الثائرين، واستطاع أن يهزمهم هزيمة منكرة، وفرّ قائد هذه الجموع إلى الحصون فهدأت الأوضاع نوعاً ما في الأندلس.
البربر يتجمعون للثورة والقتال
* عام 218 هـ - 833 م ثورة سليمان بن مرتين:
- وما أن هدأت ثورة البربر حتى ثار بربري آخر اسمه (سليمان بن مرتّين)، جمع أتباع الثائر محمود قبله، وبدأت سيطرته على المنطقة تدريجياً، فأخضع أولاً مدينة "باجة" ثم أكمل سيطرته على مدينة "بطليوس"، رأى عبد الرحمن الأوسط هذا الأمرَ قوة، لذلك أرسل جيوشاً متلاحقة، وتابع أنصار سليمان في كل الأماكن، حتى اضطر قائد الثورة إلى الهرب ملتجئاً إلى النصارى القوط في الشمال.
- رأى القوط هذا فرصة للتدخل في المناطق الإسلامية المتاخمة لهم، ولنصرة (سليمان بن مرّتين) حليفهم، فلم يستكن الأمير عبد الرحمن الأوسط لهذه الاستفزازات، بل تابع بجنوده تلك الثورات وتمكن في النهاية من قتل سليمان.
- لم يكتف الثوار بأعمالهم الإجرامية والفوضى، ولا بإشعالهم نيران الاضطرابات، بل أخذوا يطلبون النجدة من جيرانهم الأجانب ويقحمونهم إلى المناطق الإسلامية، وبئست الخيانة هذه.
* عام 224هـ - 839 م ثورة هاشم الضراب:
- ومما يشير إلى سوء الأحوال وضعف النفوس لدى العامة أنهم مستعدون للتحرك لكل من يناديهم، وجاهزون لإعلان العصيان استجابة لكل من يدعو إلى ذلك، ومن غريب الواقع أن حداداً يدعى هاشم الضرّاب ليس له هدف أو غاية استطاع أن يجمع الجموع في الأوسط الأندلس في "طليطلة" من الساعين إلى الفتن، والطامعين في الأموال والحكم ومن النفوس الباغية، وتمكن بهؤلاء أن يبسط سيطرته على "طليطلة" وما حولها، فأرسل إليه عبد الرحمن الأوسط خيرة قواده وصفوة جيوشه، وانتهى أمر هاشم وقُتل، لكن لهيب الثورات لم ينطفئ حتى عام 224هـ، فأخمده عبد الرحمن بعد أن استمر اشتعالها ثماني سنوات.
- وقد تزامن هذا اللهيب في الأندلس، مع لهيب اضطراب الأحوال في المشرق الإسلامي في هذه الفترة بالذات إذ مات الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، واستلم الخلافة المعتصم، فدبّ الضعف في الخلافة العباسية، كما وهن حكم الإمارة في الأندلس.
نار الفتن والثورات تنهك كاهل الدولة الإسلامية
* عام 229هـ - 844 م غزوة النورمان:
- النورمان: اسم يطلق في المصادر الحديثة على سكان الدول الاسكندينافية: السويد والنرويج والدنمارك، وأطلق المؤرخون المسلمون عليهم اسم المجوس، أما في المصادر الإنكليزية فإن اسمهم "الفايكنز" أو "النوريمين"، ويرجع أصل هذا الشعب إلى أصل جرماني، وقد ظهرت اعتداءاتهم أولاً على سواحل الدول الأوربية.
- وكانت قبائل همجية تشتهر بالنشاط التجاري أو الحربي، ويهمنا في هذا البحث القبائل النورمانية التي انطلقت من الدنمارك، يصفهم المؤرخون الأندلسيون: كانت تخرج من البحر مراكب عظام، وكان يخرج منها أقوام يعرفون بالمجوس، كانت لهم شدة وبأس قوة وجلد على ركوب البحر، وكانوا متى خرجوا خلت منهم سواحل البحر مخافة منهم، وكانوا لا يخرجون إلا على رأس ستة أعوام أو سبعة، وكانوا أقل ما يخرجون في أربعين مركباً، وربما بلغوا المائة مركب، ويغلبون كل مَنْ لقوه في البحر ويَسبْونهم ويأسرونهم.
- في سنة 229هـ ورد كتاب من "وهب الله بن حزم" عامل "الأشبونة": (لشبونة عاصمة البرتغال الآن) يذكر فيها أنه حلّ بالساحل قبله 54 مركباً للمجوس (النورمان)، ومعها أربعة وخمسون قارباً، فخرجت الكتب إلى العمال بالاحتراس، وتمكن والي (لشبونة) من صدهم ومنعهم من الدخول إلى مدينته.
- فتابع النورمان طريقهم نحو مصب نهر وادي الكبير، و "إشبيلية" مدينة تقع على مجراه حتى وصلوها، فأصيب أهل إشبيلية بالدهشة من هؤلاء الغرباء وهجومهم المفاجئ حيث تمكنوا من بسط سيطرتهم عليهم، إذ كانت سفن المسلمين متواجدة في الشرق لأنهم لم يتوقعوا أن يأتي أي هجوم من الغرب، فلما بلغ الأوسط أعمالهم القذرة أرسل أشهر قواده الغزال "يحيى بن حكم الجياني" و"ويحيى بن حبيب" مع القوات، فهاجموا النورمان قرب قرية "طلياطة": 30 كم شمال غرب إشبيلية، إذ كانوا متوجهين لاحتلال العاصمة قرطبة، واستطاع المسلمون إيقافهم هناك وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وحطموا خمسة وثلاثين مركباً من مراكبهم الأربع والخمسين، وعلقوا على جذوع النخل أعداداً منهم بعد أسرهم، وقتل قائد النورمان هنا أيضاً.
- استغرقت عملية النورمان مائة يوم من ظهورهم أمام لشبونة حتى اختفائهم، أشغلوا المسلمين، واستباحوا إشبيلية أكثر من غيرها، وقتل من الأندلسيين الخلق الكثير.
الفايكنغ ( النورمان ) يجولون العالم في سفنهم العظيمة السريعة - ورأس التنين في مقدمتها
* عام 230هـ - 845 م نتائج غزوة النورمان:
- كان من نتائج غزوة النورمان أن أمر عبد الرحمن الأوسط إحكام بناء السور في إشبيلية، حيث قال: إن بنيان سور مدينة إشبيلية وتحصينها أوكد عليه من بنيان الزيادة في المسجد الجامع بقرطبة.
عائلة من الفايكنغ ( النورمان )
* عام 230هـ - 845 م غزو الشمال الإسباني وجنوب فرنسا:
- أراد عبد الرحمن الثاني أن يظهر قوته ويلقى الرعب في قلوب الأعداء في الشمال والشمال الغربي: الفرنج في فرنسا، والقوط في شمال غرب الأندلس، قاد بنفسه جنده نحو القوط وتحرك بحمله حتى بلغ مدينة ليون فأخضع كثيراً من الحصون والقلاع التي كانت بيد مملكة ليون، وأرجعهم إلى حدودهم في الجبال المنيعة من الصخرة.
- وأرسل وزيره عبد الكريم بن مغيث عام 231 هـ فعبر جبال البيرينية رداً على اعتداء هؤلاء على الأندلس وتخريبها، ودخل جنوب فرنسا وحاصر مدينة "غَرندة" واحتلها وغنم منها، وأرعب أهلها، ومن ثم صار الأمر بين كرّ وفرّ في جنوب فرنسا.
درهم الإمارة الأموية: عبد الرحمن الثاني
* عام 235 هـ - 850 م حركة تمرد (إليخيو) والقديسين:
- أثارت هذه القوة التي ظهرت أيام عبد الرحمن الأوسط حفيظة المتشددين من نصارى الأندلس، إذ قام رجل نصراني من نصارى قرطبة يدعى "أليخيو" بحركة سميت "حركة شهداء القديسين"، ومن المعلوم أن المسلمين ما ألزموا أحداً بترك دينه، بل تركوا للنصارى ولغيرهم معابدهم ومدارسهم وأزياءهم وحرية عباداتهم، وبالرغم من هذه الحرية ظهرت حركة التمرد في قرطبة، فقام رجل في يوم الفطر عام 235هـ يدعى "برتكتو" يناقش مسلماً حتى طور النقاش إلى أن نال من الإسلام والمسلمين شتماً وسباً مقذعاً فنهاه المسلمون فلم ينته، فأخذوه إلى القاضي فحذروه وردعه فلم يرعوِ إذ قال له القاضي: إن الذي يشتم الإسلام يُقتل ولو كان مسلماً، فكيف بغيره؟ فأصرّ جهراً وشتم عياناً في مجلس القاضي، عند ذاك أمر القاضي بقتله، وذاع الخبر، مما جعل أنصار "أليخيو" ينشطون، إذ جاء رجل آخر يدعى "إسحق" نال بدوره من الدين الإسلامي ونبيه بأقذع السباب والشتائم فنبه وحذر فلم يرتدع فقتل.
- وجاء واحد تلو آخر، لذلك سماهم بعض الدارسين الأوربيين بالمتعصبين المنتحرين، وأطلق عليهم آخرون اسم الشهداء القديسين، وذاع صيتهم بين نصارى الأندلس، ومنهم انتشر الخبر في أوربا.
صالة أحد القصور في الأندلس
السور المنيع المحيط بإشبيلية القديمة والذي كان لعبد الرحمن الأوسط الفضل في إحكام بنائه
* عام 238 هـ - 853 م تصرف الأوسط:
- فماذا فعل الأوسط؟ لو سكت لجاز أن يخدش هذا العمل من هيبة الإسلام والمسلمين، وإن قتل ازداد عدد المقدمين على الانتحار، واستغلهم إعلام الأعداء، حتى وصل الأمر إلى درجة خطيرة في الأندلس، فقد استمرت هذه الحركة ثلاث سنوات، حتى تطورت إلى درجة خطيرة ففي عام 228 هـ دخل بعض المتطرفين مسجد قرطبة الكبير وانتهكوا حرمته، ولوّثوا بالأوساخ جدرانه، فأمر عبد الرحمن بإعدام كل من فعل هذه الفعلة الشنيعة.
- انتهز هذا العمل "إليخيو" من وراء الستار يعلن أن هؤلاء مظلومون، وأنهم شهداء أبرار راحوا ضحية الظلم من أجل عقيدتهم، ولا يستغرب أن يكون الإعلام الأوربي والكتب النصرانية ممجداً لهذه الحركة، ورفع مقام المنتحرين إلى مرتبة القداسة والشهادة!!
- أراد الأمير أن يستعمل الحكمة لإنهاء هذه الحركة الخبيثة ولأول مرة في تاريخ الأندلس يأمر الأوسط بعقد مؤتمر كنسي دعي إليه رجال الدين المسيحي في الأندلس إلى قرطبة واجتمع معهم الأوسط وسألهم سؤلاً صريحاً:
* هل تقرون حركة "أليخيو" وما يسمى بالقديسين الشهداء؟
* هل تريدونها فتنة عمياء بين المسلمين والنصارى؟
- تشاور رجال الدين فيما بينهم، ثم خرجوا بقرار أن هذه الحركة مغالية في عملها خارجة عن مبدأ النصارى، وأنه ما ظلم أحد من النصارى في الأندلس، وأن النصارى يتمتعون بكل حرية بعقيدتهم، وعبادتهم ومدارسهم، ثم أعلن هذه المؤتمر إدانته الصريحة لهذه الحركة، وانتشرت بين الناس تلك الإدانة، فهدأت الحركة وقلّ المتعصبون منهم ظاهرياً.
- والملفت للنظر أن هذه الحركة لم تتحدث عنها المصادر الإسلامية ومنها الأندلسية، وما يذكر عنها إنما هو من المصادر الأوربية التي تتسم أصلا بالغلوّ والحقد والتحيزّ، وهذا يدعو إلى الاحتراس من تلك المعلومات التي تذكرها، ولعلّ المصادر الإسلامية التي تتحدث عنها قد فقدت.
النصارى في الأندلس يشعلون نار الفتنة
* الأسطول الإسلامي:
- اهتم عبد الرحمن الأوسط بالأسطول الإسلامي، فأصبح هذا الأسطول يحفظ سواحل الأندلس وأصبح مستعداً دوماً لحراستها من جهة الأطلسي والأبيض المتوسط، ويذكر ابن حبان المؤرخ الأندلسي: أن الأمير عبد الرحمن الأوسط سنة 234هـ سيّر أسطولاً من ثلاثمائة مركب إلى أهل جزيرتي "ميورقة" و"منورقة" لنقضهم العهد وإضرارهم بمن يمر إليهم من مراكب المسلمين ، ففتح الله للمسلمين عليهم وأظفرهم بهم فأصابوا سباياهم وفتحوا أكثر جزرهم.
صفحة من القرآن الكريم من العهد الأندلسي
- وزادت دور صناعة السفن كثرة وقوة ومهارة حتى لا تدع فرصة أخرى لغزوة مماثلة تباغت المسلمين كما فعلت غزوة النورمان.
- استمر حكم عبد الرحمن الأوسط في الأندلس 32 سنة إلى عام 238 هـ ومات رحمه الله وتولى من بعده الإمارة ابنه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم.
الأسطول الإسلامي يحفظ سواحل الأندلس