لفلي سمايل

عبد الرحمن الغافقي، وبلاط الشهداء

تاريخ الإضافة : 15-9-1432 هـ

الفصل الثالث: عهد الولاة

 

ثالثاً: عبد الرحمن الغافقي، وبلاط الشهداء:

 

* عام 112هـ - 731م الوالي الثالث عشر عبد الرحمن عبد الله الغافقي:

- وبقي الأمر كذلك إلى أن تم اتفاق أهل الأندلس وفرض الجيش رأيه، وأقرّ والي إفريقية على تعيين عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي (الولاية الثانية) في شهر صفر سنة 112للهجرة، واستمرت ولايته سنتين وثمانية  أشهر، هو اسم خلدّه عمله وجهاده، قائد عسكري من أشهر من عرفهم التاريخ، شجاع وهو الذي أنقذ بقية المسلمين عندما استشهد السمح بن مالك الخولاني في يوم التروية عام 102للهجرة، وكان أول عمل عظيم له حين تولى الولاية الثانية أن جمّد تلك الصراعات القبلية التي كانت تتأرجح في بعض الصدور فتشعلها فتناً، وألف بين القلوب المتنافرة في تلك الحقبة إذ ذكرهم بالإسلام، وبالله الذي ألف بين قلوبهم، وأطفأ نار الصراعات القبلية، والإقليميات التي تسبب الانحطاط والتقهقر، وتدمر الحضارة، ومازالت في عصرنا هذا تفعل فعلها!.

- فضبط الأمور وأعاد الناس إلى وشيجة الإيمان لا إلى وشائج أخرى، فجنسية المسلم عقيدته، ولسان حالة ينبغي أن يقول:

أبي الإسلامي لا أب لي سواه              إذا انتسبوا لقيس أو تميم

 

عبد الرحمن الغافقي، وبلاط الشهداء

إحدى مدن الأندلس الزاهرة وآثار المسلمين باقية فيها

 

* مهاجمة فرنسا:

- استطاع عبد الرحمن الغافقي أن يؤلف بين المسلمين هناك وحشدهم في خمسين ألفاً لم يتجمع للمسلمين مثله من قبل، وتوجه غازياً إلى بلاد الفرنج فرنسا أولاً.

- فهاجم إقليم أقيطانية "إقتانية"، وفرّ حاكمها "أوديس"، ثم فتح "آبل"، ثم دخل "بوردو" ثم استطاع أن يفتح (طولوشة) عاصمة الإقليم، وفرّ "أوديس" من "سان مارتن" إلى "شارل مارتل" يحتمي به ويستنجده، حيث توجه عبد الرحمن نحو باريس بعد أن فتح مدينة (تور).

- فأخضع بذلك جنوب فرنسة ووسطها، ولم يبق أمامه إلا مدينة "بواتيه" فاصلة على طريق "باريس".

 

* حرب صليبية:

- استنجد "شارل مارتل" بالبابا يستغيث به، فأعلنها حرباً صليبية -وهم صليبيون إلى الأبد- فأرسل إلى ملوك أوربة وأمرائها قاطبة أن يرسلوا ما يمكن من الجنود والأعتدة إلى "شارل مارتل" ليحمي "باريس" من السقوط، فاحتشد خلق كثير، واجتمع مئات الألوف.

 

عبد الرحمن الغافقي، وبلاط الشهداء

تتويج الإمبراطور من قبل البابا

 

* معركة بواتيه:

- توجه "شارل مارتل" بجيش كثير العدد بلغ قوامه 400 ألف لصدّ زحف المسلمين، بلغ ذلك عبد الرحمن الغافقي، فقرر أن يختار هو مكان المعركة، فتراجع عن "بواتيه" إلى سهل يدعى "شاتِلْرو" شمال شرق "بواتيه" بـ 20 كيلومتراً؛ وخيم على أطلال بلاط  قصر مهجور قديم هناك، ينتظر قدوم القوات الأوربية، فأصبح الوضع هناك: يفصل 1000 كيلومتر قوات المسلمين عن عاصمتهم قرطبة، وما من مَددَ يمكن أن يأتيها، وقيل إن بعض الجيش طلب الانسحاب لضعفٍ في نفوس وميل إلى بعض الغنائم التي كانت معهم، إلا أن عبد الرحمن ذكّرهم بأن مهمة المسلمين ليست إلا في إخراج الناس من العبودية إلى الحرية، ومن عبودية البشر إلى عبودية رب العالمين، وإنقاذ العباد من ظلمات الكفر والطغيان إلى النور والأمان، فطابت نفوسهم لذلك، وقرروا البقاء والانتظار لملاقاة الأعداء.

- أما القوت الأوربية فإن البابا كان يمدها تباعاً، وهي قريبة من عاصمة فرنسة، ويقودها رجل عرف بالدهاء والبطش ويلقب بالمطرقة: "شارل مارتل".

 

* عام 114هـ - 732م بلاط الشهداء:

- حدثت المعركة في أواخر شعبان عام 114 للهجرة، يسميها المسلمون (بلاط الشهداء)، وتسمى لدى أهل الغرب معركة "بواتيه".

- استمرت هذه المعركة عشرة أيام، ودخل شهر رمضان والقتال على أشده، وكانت الأيام لصالح المسلمين، وكان الغافقي يهاجم في الصفوف المتقدمة، ويقتحم جيش العدو ويمزقه، وبعمله هذا يقدم نموذجاً للقادة العظام، لا الذين يقودون من وراء المكاتب أو يختبئون في الملاجئ وخلف الأسوار.

- واشتد القتال وبلغ ذروة الهجوم حول النقطة والموضع الذي كان فيه عبد الرحمن حيث أمر "شارل مارتل" بالتركيز لقتل الغافقي، وكان يعتبره أنه مفتاح الجيش وثباته وقوته.

 

* عبد الرحمن الشهيد:

- وسقط عبد الرحمن رحمه الله شهيداً، فضعفت النفوس، وبدأت الهزيمة تدب فيها لتعلق بعضها بالدنيا، وكثر القتل والشهداء في صفوف المسلمين، فانهزموا، وقد زاد استشهاد الغافقي صعوبة في الموفق ففضلوا الانسحاب.

- فما رأى الفرنج في صباح اليوم التالي من المعركة التي قتل فيها أمير الجيش إلا أرضاً بلقعاً، فالمسلمون قد غادروا المكان دون أن يشعر بهم إنسان، وكانوا قد تركوا الخيام وبعض أمتعتهم ليوهموا الفرنجة باستمرارهم.

 

عبد الرحمن الغافقي، وبلاط الشهداء

شارل مارتل يقود معركة بلاط الشهداء بنفسه

 

* بلاط الشهداء أنقذت أوربا:

- وقد عدّ المؤرخون "بواتيه" نصراً مؤزراً للفرنجة، واعتبروها معركة حاسمة، وهي بالواقع معركة هامة فاصلة إلا أن المسلمين لم يهزموا فيها، بل تأكدوا أنهم يجب ألا يغامروا بجيوشهم القليلة العدد في بلاد واسعة وأمم عديدة تجمعت للقضاء على المسلمين.

- وتحتاج هذه المعركة في دراستها وأسبابها إلى بحث علمي نزيه، لعلنا نصل إلى حقائق غير التي يعتمدها بعض الباحثين على أسس غير سليمة أو على أسس مفسرة بحسب المواقف والأهواء.

 

* يقول "جيبون" أحد المؤرخين الإنكليز مثلاً:

- إن "بواتيه" أنقذت آباءنا الإنكليز وجيراننا الفرنسيين من نير القرآن المدني والديني، وحفظت جلال رومة، وأخرت استعباد القسطنطينية، وفرقت بين المسلمين، ولو انتصر المسلمون في "بواتيه" ما كان شيء يقف أمامهم بعد ذلك.

وذكرى "بواتيه" مؤلمة للنفس، لتعلق بعض النفوس بالدنيا كما كان مثلاً في ( غزوة أحد) حيث نزل قوله تعالى:{ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } آل عمران:152، فأصيبوا هناك كما أصيبوا هنا.

 

- ولكنها ذكرى عزيزة على النفس المسلمة، تدغدغ الآمال وتوقظ الهمم، فقد استطاع الغافقي رحمه الله أن يوحد المسلمين ويوجههم في الأندلس ويهاجم بهم أوربا لأداء دورهم وتبليغ رسالة العالمين إليهم، ولو انتصروا هناك لتغير وجه التاريخ، ولكنه قدر الله سبحانه وتعالى.

 

- وقد عرف عديد من الكتاب الغربيين شيئاً من حضارة الإسلام ورقيه في كل أرض وطئها المسلمون ثم استقروا عليها، فقالوا عن "بواتيه" إنها نكبه كبيرة أصابت أوربة بحرمانها من الحضارة قروناً.

- يقول أحدهم: ذلك ما أصابها "أوربة" على يد جند الفرنجة بقيادة "شارل مارتل"، الذي حشد جيشاً ضخماً من الفرنج ومختلف العشائر الجرمانية المتوحشة، والعصابات المرتزقة فيما وراء "الراين"، يمتزج فيه المقاتلة من أمم الشمال كلها، وجلب جنداً غير نظاميين، نصف عراة يتشحون بجلود الذئاب وتنسدل شعورهم الجعدة فوق أكتافهم العارية.

 

* ولا تزال هذه المعركة تحتاج إلى دراسة منهجية لمعرفة الأسباب لانهزام المسلمين، وذكر الغنائم والفرقة في صفوف المسلمين يحتاج إلى نظر وفيه مقال.

* تراجع المسلمون عن فرنسة، إلا أنه بقيت لهم مناطق فيها، وتتبع "شارل مارتل" المسلمين ثلاث سنوات، وما بقي لهم إلا منطقة صغيرة فيها "أربونة" عاصمة في جنوب فرنسة.

 

عبد الرحمن الغافقي، وبلاط الشهداء

منظر تصويري لمعركة بلاط الشهداء في الرسوم الغربية

 

* عام 114هـ - 732م الوالي الرابع عشر عبد الملك الفهري:

- ربما كان الذي انسحب بالمسلمين بعد استشهاد الغافقي هو عبد الملك بن قطن الفهري في شوال عام 114 للهجرة، وكان متقدماً في السن شيخاً كبيراً، ولم تكن له مؤهلات للقيادة ولا للسياسة، وربما فرضته قبيلته إلى سدة الولاية، فأذعن الناس للأمر الواقع، فملأ الأندلس بالظلم والجور، فضج الناس منه.

- وراسل أهل الأندلس عبَيدَ الله بن الحبحاب والي مصر وشمال إفريقية، وكان ممن يُعتمد عليه، إذ ولاه الخليفة في دمشق ولايتي مصر والشمال الإفريقي، فعزلة لطلب الناس، وكانت مدة ولايته سنتين.

 

* عام 116هـ - 734م الوالي الخامس عشر عقبة السلولي:

- وأرسل والي مصر وشمال إفريقية عقبةَ بن الحجّاج السلولي والياً إلى الأندلس في شوال عام 116 للهجرة، وكانت ولايته خمس سنوات، ويذكر أنه لما خيره والي مصر وإفريقية بين ولاية إفريقية وبين الأندلس، اختار عقبةُ الأندلسَ وقال: إني أحب الجهاد وهي موضع جهاد، فولاه، فدخل الأندلس وافتتح حتى بلغ "أُربونة"، ودخل "جيليقية" و "بَنْبلونة".

- وكان محمود السيرة مثابراً على الجهاد وما ترك جيباً إلا فتحه ماعدا "الصخرة"، وذكر عن درجة حبه للدعوة الإسلامية أنه كان إذا أسر الأسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام، فأسلم على يده ألفا رجل، وفي الحديث:( لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير من أن يكون لك حمر النعم ) رواه البخاري. فكيف بثواب الألفين عند الله سبحانه وتعالى!.

 

* مهاجمة فرنسا ثانية:

- وجال عقبة رحمه الله في المناطق التي سلكها عنبسة وفي الوجهة ذاتها، في جنوب فرنسة وشمالها الشرقي، أشهرها مقاطعة "سبتمانية" وعاصمتها "أربونة" ومن مدنها "قرقشونة"، ومقاطعة "البروفانس" شمال "سبتمانية" إلى الشرق وعاصمتها "أبنيون"، وكذلك منطقة شمال "البروفانس".

 

- ولعله كان ينوي التوجه إلى الشمال ليجتاز "أقيطانية"، ويصل إلى المكان الذي جرت فيه معركة "بلاط الشهداء"، ولم يكن هذا الجهاد سهلاً ولا قليلاً إلا أنه يدل على قوة الإيمان والهمة العالمية.

- ولما حاصر "شارل مارتل" "قرقشونة" بجيش كثير العدد، أرسل عقبة القوات لفك الحصار، ومن ثم جاء هو بنفسه لكنه سقط شهيداً عند "قرقشونة" رحمه الله.

 

عبد الرحمن الغافقي، وبلاط الشهداء

غرناطة الحمراء: غرفة الأختين - المعروفة قديما بــ بيت عائشة.

 

* عام 119 هـ - 737م وفاة بلاي:

- وفي هذه الفترة جرى في منطقة "ليون" أن توفي "بلاي" سنة 119 للهجرة فورثه ابنه "فرويْلة" الذي استمر سنتين، وتوفي هذا من غير أن يترك عقباً، فخلفه رجل يدعى "أذفنش" ويسميه المسلمون "الفونسو الأول" الذي تزوج من ابنة "بلاي" المسماة "إرمسندا".

- تمكن "الفونسو" من أن يوحد "منطقة الصخرة" وأن يجمع الشتات الذي كان عقبة قد فرّقهم، فهو يعتبر لهذا مؤسس المملكة النصرانية في الشمال، والتي سيكون لها دور كبير في تاريخ الأندلس بعد ذلك.

 

عبد الرحمن الغافقي، وبلاط الشهداء

مدينة الزهراء، القاعة الفنية، كان عرش الخليفة منصوبا قرب الجدار الداخلي

 

* عام 123 هـ - 741م الوالي السادس عشر عبد الملك الفهري (ثانية):

- عبد الملك بن قطن الفهري "الولاية الثانية"، ورفعته قبيلته وفرضته والياً على الأندلس لما اختلفت المعايير في ذاك الزمن ودامت ولايته سنة وشهراً، كان الوالي سابقاً يعيّن لحسن سياسته ونظام إدارته، فأصبح الآن يعيّن لعصبيته ولقبيلته القوية.

* وخلال هذه الفترة من توالي الولاة في الأندلس كانت أحداث خطيرة تجتاح العالم الإسلام وشمال أفريقيا أدت إلى أحداث هامة في تاريخ الأندلس.

مواضيع ذات صلة

الأحداث في عهد الحاجب المنصور الأندلس التاريخ المصور الأحداث في عهد الحاجب المنصور
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأندلس التاريخ المصور عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

إضف تعليقك

فضلا اكتب ماتراه فى الصورة

تعليقات الزوار (1)

ملاحظة للأخوة الزوار : التعليقات لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع لفلي سمايل أو منتسبيه، إنما تعبر عن رأي الزائر وبهذا نخلي أي مسؤولية عن الموقع..

salah

بداية الانحطاط٠٠٠