لفلي سمايل

زيد الخير رضي الله عنه

تاريخ الإضافة : 6-1-1434 هـ

زيد الخير رضي الله عنه

 

* الناسُ معادنٌ خيارهُم في الجاهليَّة خيارُهم في الإسلام.

فإليك - خذ - صورتينِ لصحابيٍ جليلٍ خطتْ أولاهُما يدُ الجاهلية، وأبدَعت أخراهما أناملُ الإسلام.

ذلك الصحابيُّ هو " زيدُ الخيلِ " كما كان يدعوهُ الناسُ في جاهليته.....

و"زيدُ الخيرِ" كما دعاهُ الرسول الكريمُ بعد إسلامِه.

أما الصورة الأولى فترويها كتبُ الأدبِ فتقول:

حَكى الشيبانيُّ عن شيخٍ من بني عامرٍ قال: أصابتنا سَنة مُجدبة - لا مطر فيها ولا نبات - هلك فيها الزرع والضَّرع، فخرجَ رجلٌ مِنا إلى الحيرةِ - مدينة في العراق بين النجف والكوفة - ، وتركهُم فيه، وقال لهم: انتظرُوني هنا حتى أعودَ إليكم.

ثم أقسمَ ألا يرجع إليهم إلا إذا كسبَ لهم مالاً أو يموت.

ثم تزوَّد زاداً ومَشى يَومهُ كله حتى إذا أقبلَ الليلُ وجَد أمامَه خِباءً - خيمة -، وبالقرب مِن الخباءِ مُهرٌ مُقيدٌ؛ فقال: هذا أوَّلُ الغنيمةِ، توجَّه إليه وجَعَل يَحلُّ قيدهُ، فما إن هَمَّ برُكوبه حتى سمعَ صوتاً يناديه: خلِّ عنهُ - اتركه - واغنمْ نفسك، فتركه ومَضى.

ثم مَشى سبعَة أيامٍ حتى بلغ مكاناً فيه مَراحٌ للإبل، وبجانبهِ خباءٌ عظيمٌ فيه قبة من أدمٍ- الجلد - تشير إلى الثراءِ والنعمةِ، فقال الرجل نفسِه: لا بُدَّ لهذا المراحِ من إبلٍ. ولا بُدَّ لهذا الخباءِ من أهلٍ.

ثم نظر في الخباء - وكانت الشمسُ تدنو من المغيب - فوجَد شيخاً فانياً في وسَطهِ، فجلسَ خلفه، وهو لا يشعرُ به.

وما هو إلا قليلٌ حتى غابتِ الشمسُ، وأقبلَ فارسٌ لم يُرَ قط فارسٌ أعظمُ منهُ و لا أجسمُ - أعظم جسماً -، قدِ امتطى صَهوة - موضع ركوب الفارس على ظهره - جوادٍ عالٍ، وحَولهُ عبدانِ يمشيان عن يمينه وشِماله، ومعه نحو مائةٍ من الإبلِ، أمامها فحلٌ كبيرٌ، فبرَك الفحلُ، فبركتْ حولهُ النوقُ.

وهنا قال الفارسُ لأحدِ عَبديه: احلِب هذه، وأشارَ إلى ناقةٍ سمينةٍ، واسقِ الشيخ، فحَلبَ منها حتى ملأ الإناء، ووضعهُ بين يدي الشيخ وتنحَّى عنه، فجَرَع الشيخُ منه جُرعة أو جُرعتين وتركه. قال الرجل: فدببتُ نحوهُ مُتخفي، وأخذتُ الإناءَ، وشرِبتُ كل ما فيه، فرجعَ العبدُ وأخذ الإناء وقال: يا مولايَ لقد شربهُ كلهُ، ففرحَ الفارسُ وقال: اِحْلب هذه، وأشار إلى ناقةٍ أخرى، وضع الإناء بين يدي الشيخ، ففعلَ العبدُ ما أمِرَ به، فجرع منه الشيخُ جُرعة واحِدة وترَكه، فأخذته، وشربتُ نِصفه، وكرهتُ أن أتيَ عليه كله حتى لا أثيرَ الشكّ في نفسِ الفارس.

ثم أمرَ الفارسُ عبدهُ الثاني بأن يذبح شاة، فذبحَها فقام إليها الفارسُ وشوَى للشيخِ منها وأطعمهُ بيديه حتى إذا جَعل يأكلُ هو وعبداه.

وما هو إلا قليلٌ حتى أخذ الجميعُ مضاجعَهم وناموا نوماً عميقاً له غطيط - صوت النائم وشخيره -.

عند ذلك توجهتُ إلى الفحلِ فحللتُ عِقالهُ وركبتهُ، فاندفعَ، وتبعتهُ الإبلُ، ومَشيتُ ليلتي. فلما أسفرَ النهارُ نظرتُ في كل جهةٍ فلم أر أحداً يتبعُني، فاندفعتُ في السَّيرِ حتى تعالى النهارُ.

ثم التفتُ التِفاتة فإذا أنا بشيءٍ كأنهُ نسرٌ أو طائرٌ كبيرٌ، فمازال يَدنو مني حتى تبينتُه فإذا هو فارسٌ على فرسٍ، ثم مازال يُقبلُ عليَّ حتى عرفتُ أنهُ صاحبي جاءَ يَنشدُ إبلهُ - يبحث عنه ويطلبها -.

عند ذلك عقلتُ الفحل - ربطت الجمل - وأخرجتُ سهماً من كِنانتي -الكنانة هي الجعبة التي توضع فيها السهام - ووضعتهُ في قوسي وجعلتُ الإبلَ خلفي، فوقف الفارسُ بعيد، وقال لي:

احلل عِقالَ الفحل. فقلت: كلا.

لقد تركتُ ورائي نسوة جائِعاتٍ بالحيرةِ وأقسمتُ ألا أرجعَ إليهنَّ إلا ومعي مالٌ أو أموت.

قال: إنك ميتٌ ... احلل عِقال الفحلِ - لا أبا لك -وهي كلمة تقال في الشتم والمدح-، والمراد هنا الشتم.

فقلت: لن أحُلهُ ....

فقال: ويحَك - الويح الهلاك -، إنك لمَغرُورٌ.

 

- ثم قال: دلِّ زِمامَ الفحْل - وكانت فيه ثلاثُ عُقدٍ - ثم سألني في أيِّ عُقدةٍ منها أريدُ أن يضعَ لي السَّهم، فأشرتُ إلى الوسطى فرَمى السهم فأدخله فيها حتى كأنما وضعَه بيده، ثم أصابَ الثانية والثالثة...عند ذلك، أعدتُ سهمي إلى الكِنانة - كيس السهام - ووقفتُ مُستسلم، فدنا مِني وأخذ سيفي وقوسِي وقال: اِركب خلفي، فركبتُ خلفه، فقال: كيف تظن أنِّي فاعلٌ بك؟

فقلت: أسوَأ الظن.

قال: ولمَ ؟!

قلتُ: لما فعلتهُ بك، وما أنزلتُ بك من عناءٍ وقد أظفرك الله بي.

فقال: أوتظنُ أني أفعلُ بك سوءاً وقد شاركت " مُهلهلاً " (يعني أباه) في شرابهِ وطعامِه ونادمته تلك الليلة؟!!!!

فلما سمعتُ اسمَ "مُهلهل " قلت: أزيدُ الخيلِ أنت؟

قال: نعم.

فقلت: كن خيرَ آسرٍ.

فقال: لا بأس عليك، ومَضى بي إلى موضِعه وقال: والله لو كانت هذه الإبلُ لي لسلمتها إليك، ولكنها لأختٍ من أخواتي، فأقِم عندنا أياماً فإني على وشكِ - على قرب - غارةٍ قد أغنم منها.

وما هي إلا أيامٌ ثلاثة حتى أغارَ على بني نُميرٍ فغنمَ قريباً من مِائة ناقةٍ فأعطاني إيَّاها كلها وبَعث معي رجالا من عِنده يَحمُونني حتى وصلتُ الحِيرة.

 

* * *

- تلك كانت صورة زيدِ الخيلِ في الجاهلية، أما صورته في الإسلامِ فتجلوها كتبُ السِّير فتقول:

لما بلغت أخبارُ النبي عليه الصلاة والسلام سَمع زيد الخيل، ووقف على شيءٍ مما يَدعو إليه، أعدَّ راحِلتهُ، ودعا السَّادة الكبراءَ من قومه إلى زيارة يثربَ - المدينة المنورة - ولِقاء النبي عليه الصلاة والسلام، فركبَ معه وفدٌ كبيرٌ من طيِّئٍ، فيهم زرُّ بن سدوسٍ، ومالِك بن جُبير، وعامرُ بن جُوينٍ وغيرُهم وغيرُهم، فلما بلغوا المدينة توجَّهوا إلى المسجد النبويِّ الشريف وأناخوا ركائِبهم ببابه.

وصادفَ عند دخولهم أن كان الرسول صلوات الله عليه يَخطبُ المسلمين من فوق المِنبر، فراعَهُم وأدهشهُم تعلق المسلمين به، وإنصاتهم له، وتأثرهم بما يقولُ.

ولما أبصرَهم الرسول عليه الصلاة والسلام قال يخاطبُ المسلمين:( إني خيرٌ لكم من العُزى - صنم كبير من أصنام العرب في الجاهلية - ومن كل ما تعبُدون....

إني خيرٌ لكم من الجَملِ الأسود الذي تعبدونه من دون الله ).

 

* * *

- وقد وقع كلامُ الرسول صلوات الله عليه في نفسِ زيد الخيل ومن معه مَوقِعينِ مُختلفين؛ فبغضٌ استجاب لِلحق وأقبلَ عليه، وبعضٌ تولى عنه، واستكبرَ عليه...

فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السَّعير.

أما " زرُّ بن سَدُوسٍ " فما كاد يرى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في مَوقِفه الرائع تحُفهُ القلوبُ المؤمنة، وتحُوطهُ العيون الحانية حتى دَبَّ الحسدُ في قلبه وملأ الخوفُ فؤاده، ثم قال لمن معه: إني لأرى رجلاً ليملكنَّ رِقاب العَرب، والله لا أجعلنهُ يملك رقبتي أبداً.

ثم توجه إلى بلاد الشامِ، وحلق رأسهُ - أي فعل كما يفعل الرهبان حيث يحلقون رؤوسهم - وتنصَّرَ.

وأما زيدٌ والآخرون فقد كان لهم شأنٌ آخرُ: فما إن انتهى الرسول صلوات الله عليه من خطبته، حتى وقف زيدُ الخيلِ بين جموع المسلمين - وكان من أجملِ الرِّجال جمالاً وأتمهم خلقة وأطولهم قامة - حتى إنهُ كان يركبُ الفرسَ فتخِط رِجلاه على الأرضِ كما لو كان راكباً حماراً...

وقفَ بقامته المَمشوقة؛ وأطلق صوته الجهيرَ - القوي الواضح - وقال: يا محمدُ، أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فأقبلَ عليه الرسول الكريم وقال له: " من أنت " ؟

قال: أنا زيدُ الخيلِ بن مُهلهل.

فقال له الرسول صلوات الله وسلامه عليه: ( بل أنت زيدُ الخير، لا زيدُ الخيل. الحمدُ لله الذي جاءَ بك من سَهلك وجبلِك، ورقق قلبك للإسلام ).

فعُرِف بعد ذلك بزيدِ الخير...

ثم مضى به الرسولُ عليه الصلاة والسلام إلى مَنزلِه، ومعه عمرُ بن الخطاب ولفيفٌ - جمع - من الصَّحابة، فلما بلغوا البيت طرح الرسول صلوات لله وسلامه عليه لزيدٍ مُتكأً، فعظـُمَ عليه أن يتكئ في حضرةِ الرسول وردَّ المُتكأ، وما زال يُعيده الرسول له وهو يَردُّه ثلاثاً.

ولما استقرَّ بهم المجلسُ قال الرسول لزيد الخير:( يا زيد، ما وُصفَ لي رجلٌ قط ثم رأيتهُ إلا كان دون ما وُصف به إلا أنت ).

ثم قال له:( يا زيدُ، إنَّ فيك لخصلتين يُحبهما الله ورسوله ).

قال: وما هما يا رسول الله؟ .... قال:( الأناة والحِلمُ ).

فقال: الحمدُ لله الذي جعلني على ما يُحبُّ الله ورسوله.

ثم التفت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال:

أعطِني يا رسول الله ثلاثمِائة فارسٍ، وأنا كفيلٌ لك بأن أغيرَ بهم على بلاد الروم وأنال منهم.

فأكبرَ الرسول الكريم هِمتهُ هذه، وقال له:

( لله دّرُك - كلمة تقال للإعجاب ومعناها: ما أكثر خيرك - يا زيد.... أيُّ رجلٍ أنت؟ ).

ثم أسلم مع زيدٍ جميعُ من صحبهُ من قومه.

ولما همَّ زيدٌ بالرُّجوع هو ومن معه إلى دِيارهم في نجد، ودعهُ النبي صلوات الله عليه وقال:( أيُّ رجلٍ هذا؟! كم سيكون له من الشأنِ لو سلم من وَباء المدينة؟! ).

وكانت المدينة المنورة آنذاك مَوبُوءة بالحُمى، فما إن بارحها زيدُ الخير، حتى أصابتهُ، فقال لمن معه: جنبوني بلاد قيسٍ، فقد كانت بيننا حَماسَاتٌ من حماقات الجاهلية، ولا والله لا أقاتلُ مسلماً حتى ألقى الله عز وجل.

 

* * *

- تابعَ زيدُ الخير سيره نحو ديار أهله في نجدٍ، على الرَّغم من أنَّ وطأة الحُمَّى كانت تشتدُّ عليه ساعة بعد أخرى؛ فقد كان يتمنى أن يلقى قومهُ، وأن يكتب الله لهمُ الإسلام على يَديه.

وطفق يُسابق المنِية والمنية تسابقهُ؛ لكنها ما لبث أن سَبقتهُ، فلفظ أنفاسهُ الأخيرة في بعضِ طريقه، ولم يكن بين إسلامه وموته متسعٌ لأن يَقع في ذنبٍ.

مواضيع ذات صلة

إضف تعليقك

فضلا اكتب ماتراه فى الصورة

تعليقات الزوار (0)

ملاحظة للأخوة الزوار : التعليقات لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع لفلي سمايل أو منتسبيه، إنما تعبر عن رأي الزائر وبهذا نخلي أي مسؤولية عن الموقع..