* ما كان يَخطرُ ببالِ أبي سُفيان بن حربٍ أنَّ في وُسع أحدٍ من قريش ٍأن يخرُج على سلطانِه ( يخالف أمره )، أو يخالفه في أمر ذي بال ( أمر ذو أهمية وشأن ). فهو سيِّدُ مكة المُطاع، وزعيمُها الذي تدينُ له بالولاء ( الطاعة والمتابعة ).
لكنَّ ابنته رَملة المكناةَ بأمِّ حبيبة، قد بدَّدت هذا الزعمَ ( أبطلت هذا الزعم ومزقته )، وذلك حين كفرَت بآلهة أبيها، وآمنتْ هي وزوجها عبيدُ الله بن جحشٍ بالله وحده لا شريكَ له، وصدَّقت برِسالة نبيه محمدِ بن عبد الله.
وقد حاولَ أبو سفيان بكلّ ما أوتي من سَطوةٍ وبأسٍ ، أن يرُدَّ ابنته وزوجها إلى دينهِ ودين آبائه، فلم يُفلح؛ لأنَّ الإيمان الذي رسخَ في قلبِ رَملة كان أعمقَ من أن تقتَلعه أعاصيرُ أبي سفيان، وأثبتَ من أن يُزعزعَه غضبُه.
* * *
- ركب أبا سفيانَ الهمُّ بسبب إسلامِ رملة؛ فما كان يعرفُ بأيِّ وجهٍ يقابلُ قريشاً، بعد أن عجزَ عن إخضاعِ ابنته لمشيئتِه، والحيلولةِ دونها ودونَ اتباع محمدٍ.
* * *
- ولما وجدتَ قريشٌ أنَّ أبا سفيانَ ساخط على رملة وزوجها اجترأتْ عليهما، وطفقت تضيقُ عليهما الخناق، وجعلت ترهقهُما أشدَّ الإرهاق، حتى باتا لا يُطيقان الحياة في مكة.
ولما أذنَ الرسولُ صلوات الله وسلامه عليه للمسلمين بالهجرةِ إلى الحبشة، كانت رمَلة بنتُ أبي سفيان وطفلتها الصغيرة حبيبة، وزوجُها عبيد الله ابن جحشٍ، في طليعة المهاجرين إلى الله بدينهم، الفارِّين إلى حِمى النجاشيِّ بإيمانهم.
* * *
- لكنّ أبا سفيان بن حربٍ ومن معه من زعماء قريشٍ، عزَّ عليهم ( صعب عليهم ) أن يفلتَ من أيديهم أولئك النفرُ من المسلمين، وأن يذوقوا طعمَ الراحة في بلاد الحبشة.
فأرسلوا رُسلهم إلى النجاشيِّ يُحرضونه عليهم ، ويطلبونَ منه أن يُسلمهم إليهم، ويذكرونَ له أنهُم يقولون في المسيح وأمِّه مريم قولاً يسوؤه ( يؤذيه ويحزنه ).
فبعث النجاشيُّ إلى زعماء المُهاجرين، وسألهم عن حقيقة دينهم وعما يقولونه في عيسى بن مريم وأمِّه، وطلب إليهم أن يُسمعوه شيئاً من القرآن الذي ينزلُ على قلب نبيِّهم.
فلما أخبروه بحقيقة الإسلامِ، وتلوا عليه بعضاً من آيات القرآن، بكى حتى اخضلتْ لحيته ( تبللت لحيته ) وقال لهم: إن هذا الذي أنزلَ على نبيكمْ محمدٍ، والذي جاء به ابنُ مريم يخرجان من مشكاةٍ ( ما يوضع عليه المصباح ) واحدةٍ ( أي من مصدر نور واحد ).
ثم آمن بالله وحده لا شريك له، وبنبوَّة محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه...
كما أعلن حِمايته لمن هاجر إلى أرضه من المسلمين على الرغمِ من أنَّ بطارقته ( جمع بطريق وهو القائد ) أبَوا أن يُسلموا، وظلوا على نصرانيتهم.
* * *
- حَسبت ( ظنت ) أمُّ حبيبة بعد ذلك أن الأيامَ صَفتْ لها بعد طولِ عُبُوس، وأنَّ رحلتها الشاقة في طريق الآلام قد أفضَتْ بها ( انتهت بها وأوصلتها ) إلى واحةِ الأمان...
إذْ لم تكن تعلمُ ما خبأتهُ لها المقادير...
* * *
- فلقد شاء الله تباركتْ حِكمتهُ، أن يَمتحن أم حبيبة امتحاناً قاسياً تطيشُ ( تتوه وتضل ) فيه عقولُ الرجال ذوي الأحلامِ ( أصحاب العقول ) وتتضعضعُ أمامه ذوي الأفهامِ.
وأن يُخرجُها من ذلك الابتلاء الكبيرِ ظافرةً تتربعُ ( تجلس ) على قمة النجاح...
* * *
- ففي ذاتِ ليلةٍ أوتْ أمّ حبيبة إلى مضجعِها، فرَأتْ فيما يراه النائمُ أن زوجها عُبيد الله بن جحشٍ يتخبط في بحرٍ لجيِّ ( بحرٌ ذو لجج متلاطمة ) غشيته ( غطته وأطبقت عليه ) ظلماتٌ بعضُها فوق بعضٍ، وهو بأسوأ حال.
فهبتْ من نومها مَذعورةً ( نهضت خائفة ) مضطربة....
ولم تشأ أنْ تذكر له أو لأحدٍ غيره شيئاً مما رأت...
لكنَّ رؤياها ما لبثت أن تحققت، إذ لم يَنقضِ يومُ تلك الليلة المشؤومة حتى كان عبيدُ الله بن جحشٍ، قد ارتدّ عن دينه وتنصَّرَ...
ثم أكبَّ على حاناتِ ( دكاكين ) الخمَّارين يعاقر ( يلازمه ويدمن عليها ) أمَّ الخبائثِ ( كناية عن الخمر ودعيت بذلك لأنها أصل كل شر ) فلا يرتوي منها ولا يشبع.
وقد خيَّرها بين أمرين أحلاهُما مُرٌ: فإما أن تطلقَ... وإما أن تتنصَّر...
* * *
- وجدت أمُّ حبيبة نفسها فجأة بين ثلاثٍ: فإما أن تستجيبَ لزوجها الذي جَعلَ يُلحُّ في دعوتها إلى التنصُّر؛ وبذلك تَرتدُّ عن دينها ( والعياذ بالله ) وتبوءُ بخزي الدنيا ( ترجع بعار الدنيا ) وعذاب الآخرة.
وهو أمرٌ لا تفعلهُ ولو مُشط لحمُها عن عظمها بأمشاطٍ من حديد....
وإما أنْ تعود إلى بيت أبيها في مكة، وهو ما زال قلعةً للشركِ، فتعيش فيه مقهورةً مغلوبةً على دينها....
وإما تبقى في بلاد الحبشة وحيدةً شريدةً لا أهلَ لها ولا وطن ولا معينَ.
فآثرت ( فضلت واختارت ) ما فيه رضى الله عزّ وجلَّ على ما سواه...
وأزمعَتْ ( عزمت وقررت ) على البقاء في الحبشةِ حتى يأتي الله بفرجٍ من عنده.
* * *
- لم يَطلِ انتظارُ أم حبيبة كثيراً.
فلما إن انقضَت عُدتها ( العدة المشروعة التي تقضيها المرأة بعد وفاة زوجها أو طلاقها منه ) من زوجها الذي لم يَعش بعد تنصُّره إلا قليلاً حتى أتاها الفرجُ...
لقد جاءَها السعدُ يُرفرفُ بأجنحته الزمرُّدية ( نسبة إلى الزمرد، وهو حجر كريم أخضر اللون ) الخضر فوق بيتها المحزونِ على غير ميعاد...
ففي ذاتِ ضُحىً مُفضضِ السَّنا ( سناه فضي اللون، والسنا: الضوء ) طلق المحيا طرقَ عليها البابُ؛ فلما فتحته فوجئت بأبرَهَة وصيفةِ النجاشيِّ ( خادمته الخاصة ) ملكِ الحبشة.
فحيتها بأدبٍ وبشرٍ، واستأذنت بالدخولِ عليها وقالت: إن الملكَ يُحييكِ ويقول لك: إن محمداً رسول الله قد خطبك لنفسه...
وإنّه بعث إليه كتاباً فيه بأن يَعقدَ له عليك.. فوكلي عنكِ من تشائين.
* * *
- استطارتْ ( كادت تطير من شدة الفرح ) أمُّ حبيبة فرحاً، وهتفتْ: بشرَكِ الله بالخير... بشرك الله بالخير...
وطفقتْ تخلعُ ما عليها من الحليِّ، فنزعت سواريها، وأعطتهما لأبرهَة....
ثم ألحقتهما بخلخالها... ثم أتبَعت ذلك بقرطيها ( الحلق ) وخواتيمها....
ولو كانت تملكُ كنوز الدنيا كلها لأعطتها لها في تلك اللحظة.
ثم قالت لها: لقد وكلتُ عني خالدَ بن سعيد بن العاصِ، فهو أقربُ الناس إليِّ.
* * *
- وفي قصرِ النجاشيِّ الرابضِ على رابيةٍ شجراء ( رابية ذات شجر ) مُطلةٍ على روضةٍ من رياض الحبشة النضِرة.
وفي أحدِ أبهائِه ( جمع بهو، وهو القاعة الواسعة ) الفسيحةِ المُزدانة بالنقوشِ الزاهية، المُضاءة بالسُّرج ( جمع سراج، وهو المصباح الذي يضاء بالزيت ونحوه ) النحاسية الوضَّاءة، المفروشةِ بفاخرِ الرِّياش اجتمع وجوهُ الصحابة المقيمون في الحبشةِ، على رأسهمْ جعفرُ بن أبي طالبٍ، وخالدُ بن سعيد بن العاص، وعبدُ الله بنُ حُذافة السهميُّ، وغيرهم ليشهدوا عَقد أمِّ حبيبة بنتِ أبي سُفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما اكتملَ الجمعُ، تصدَّر النجاشيُّ المجلس وخطبهم فقال: أحمدُ الله القدّوس المُؤمن الجبارَ، وأشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً عبدُه ورسوله، وأنه هو الذي بشرَ به عيسى بنُ مريم.
أما بعد: فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبَ مني أن أزوِّجهُ أم حبيبة بنت أبي سُفيان؛ فأجبته إلى ما طلبَ، وأمهرتها نيابة عنه أربعمائَةِ دينارٍ ذهباً... على سُنةِ الله ورسوله...
ثم سكبَ الدنانير بين يديْ خالدِ بنِ سعيدٍ بن العاص.
وهنا قام خالدٌ فقال: الحمدُ لله وأحمدُه وأستعينه، وأستغفرهُ، وأتوبُ إليه، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بدين الهُدى والحق ليظهرَه على الدينِ كله ولو كرهَ الكافرون.
أما بعدُ: فقد أجبتُ طلبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوَّجته مُوكلتي أم حبيبة بنت أبي سفيان.
فباركَ الله لرسولهِ بزوجته.
وهنيئاً لأمِّ حبيبة بما كتب الله لها من الخير...
ثم حملَ المال وهمَّ أن يمضي به إليها، فقام أصحابُه لقيامه وهمُّوا بالانصرافِ أيضاً.
فقال لهم النجاشي: اجلسُوا فإن سُنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يُطعموا طعاماً.
ودعا لهم بطعام فأكلَ القومُ ثم انفضُّوا ( تفرقوا ).
* * *
- قالت أمُّ حبيبة: فلما وصل المالُ إليَّ أرسلتُ إلى أبرهة التي بشرتني خمسين مِثقالاً ( ما يوزن به الذهب ونحوه ) من الذهبِ وقلتُ: إني كنتُ أعطيتك ما أعطيت حينَ بشرتني، ولم يكن عِندي يومئذٍ مالٌ...
فما هو إلا قليلٌ حتى جاءت أبرهة إليَّ وردَّت الذهب، وأخرجت حُقا ( بضم الحاء وعاء الطبيب ) فيه الحُلي الذي كنت أعطيتها إياه، فردتهُ إليَّ أيضاً وقالت: إن الملك قد عزمَ علي ألا آخذ منك شيئاً.
وقد أمرَ نساءَه أن يبعثن لك بكلِّ ما عندهنَّ من الطيب.
فلما كان الغدُ جاءتني بِورسٍ ( نبات أصفر يتخذ منه الزعفران )، وعودٍ و عنبر ( ضرب من الطيب يتبخر به) ، ثم قالت لي: إن لي عندك حاجة...
فقلت: وما هي؟!
فقالت: لقد أسلمتُ، واتبعتُ دين محمدٍ فاقرئي على النبيِّ مني السلام وأعلميه أني آمنتُ بالله ورسوله ولا تنسي ذلك.
ثم جهزتني ( أعدت لي جهازي ).
* * *
- ثم إني حُمِلتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما لقيته، أخبرته بما كان من أمر الخِطبة، وما فعلته مع أبرَهَة وأقرَأتهُ منها السلامَ.
فسُرَّ بخبرها وقال: ( وعليها السلامُ ورحمة الله وبركاته ).
بارك الله فيكم على العرض الجميل للقصة جعلها الله فى ميزان حسناتكم
تاريخنا الاسلامي أكثر من رائع ، جازاكم الله خيرا كثيرا