* كان الحُصينُ بنُ سَلامٍ حَبراً ( رئيس الكهنة عند اليهود، والحبر العالم المتبحر في العالم أيضاً ) من أحبَارِ اليهودِ في يثربَ.
وكان أَهلُ المدينَةِ على اختِلافِ مِللِهم ونِحلِهم ( أديانهم ) يُجلُّونَه ويعظِّمونه.
فقد كان معروفاً بينَ النَّاسِ بالتُّقَى والصلاحِ موصوفاً بالاستِقامَةِ والصِّدْقِ.
* * *
- وكان الحُصَينُ يحيا حياةً هادِئةً وادِعةَ؛ ولكنَّها كانَت في الوقت نَفسه جادَّة نافِعةً....
فقد قسَّم وقتَه أقساماً ثلاثة: فَشَطرٌ في الكَنِيسِ ( معبد اليهود ) للوَعظِ والعبادَة...
وشَطرٌ في بُستَانٍ له يَتَعهَّدُ نَخلَه بالتَّشذيبِ والتأْبير ( تلقيح النخل وإصلاحه )..
وشطرٌ مع التَّوراةِ ( الكتاب الذي انزل على موسى عليه السلام ) للتَّفَقُّهِ في الدين...
* * *
- وكان كُلمَا قَرَأ التوراةَ وقَفَ طويلاً عِند الأخبَارِ التي تُبشرُ بظهورِ نبيٍّ في مَكَّة يُتَمِّمُ رِسالاتِ الأنبِياءِ السابقين ويَختِمُها.
وكان يَستقَصي أوصافَ هذا النبيِّ المُرتَقبِ وعلاماتِه ويَهتزُّ فَرحاً لأنهُ سَيهجُرُ بلَدَهُ الذي بُعثً فيه وسَيتَّخذُ من يَثرِبَ مهَاجراً له ( بفتح الجيم مكانا لهجرته ) ومُقاماً.
وكان كُلمَا قَرأَ هذه الأَخبَارَ أو مَرّت بخاطِره يَتمَنّى على الله أن يَفسحَ له في عُمره حتى يَشهدَ ظهورَ هذا النبي المرتقب، ويسعَدَ بلقائه، ويكون أولَ المؤمنين به.
* * *
- وقد استَجابَ الله عزَّ وجلَّ دُعاء الحُصين بنِ سلامٍ فَنسَأ لهُ ( أَخَّرَ) في أجله حتى بُعِث نبيُّ الهدى والرحمةِ...
وكُتبَ له أن يَحظى بِلقائِه وصُحبتِه، وأن يُؤمنَ بالحقِّ الذي أنزِلَ عليه...
فلنترُك للحُصينِ الكلامَ ليسوقَ لنا قصةَ إسلامِه فهو لها أروَى ( أجود رواية )، وعلى حسن عَرضها أقدَر.
- قال الحُصين بنَ سَلام: لَمَّا سمِعتُ بظهورِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخَذتُ أتحَرَى عن اسمِه ونسبهِ وصِفاتهِ وزماِنه ومكانِه وأطابِقُ بينها وبَينَ ما هو مَسطورٌ ( مكتوب ) عِندَنا في الكتب حتى استيقنتُ من نُبُوَّتهِ، وتثَبتُّ من صِدقِ دَعوتِه ثم كَتَمتُ ذلك عن اليهودِ، وعَقَلتُ ( ربطته ومنعته ) لِساني عن التكلُّم فيه...
إلى أن كانَ اليَومُ الذي خَرجَ فيه الرسولُ عليه السلامُ من مكة قاصداً المدينةَ.
فلما بَلغَ يثربَ ونَزَل بقُباءَ ( قرية على بعد ميلين من المدينة ) أقبَلَ رجُلٌ علينا وجَعلَ ينادِي في النَّاس مُعلِناً قدومَه وكنتُ ساعتئذٍ في رأسِ نخلةٍ لي أعملُ فيها وكانت عَمتِي خالِدةُ بنتُ الحارِثِ جالِسةً تحتَ الشجَرَةِ، فما إن سَمعتُ الخَبرَ حتى هتَفتُ:
الله أكبَرُ..... اللهُ أكبَرُ.
فقالت لي عَمَّتي حينَ سَمِعتْ تَكبيري: خَيبكَ اللهُ....
والله لو كُنتَ سَمعتَ بموسَى بنِ عِمرانَ قادِماَ ما فَعلتَ شيئاً فَوق ذلك....
فقلت لها: أي عَمَّة ( يا عمة )، إنه والله أخو موسى بنِ عمرانَ، وعلى دينه...
وقد بُعثَ بما بُعِثَ به...
فَسكَتَتْ وقالت: أهو النبيُّ الذي كنتم تُخبروننا أنه يُبعثُ مُصدِّقاً لمن قبله ومُتمماً لرسالات ربه؟!
فقالت: نعم...
قالت: فذلك إذن...
ثم مَضيتُ من تَوِّي ( فورا من غير إبطاء ) إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فرأيتُ الناسَ يزدَحِمُون بِبابِه، فزاحَمُتُهُم حتى صِرتُ قريباُ منه.
فكان أول ما سَمعتُه منه قوله: ( أيها النَّاسُ أفشُوا السَّلامَ.. وأطعموا الطعام...وصَلوا بالليلِ والنَّاسُ نيامٌ.. تَدخُلوا الجَنة بِسَلامٍ....)
فجعلتُ أتَفَرَّسُ فيه، وأتَمَلى ( أملأ عيني منه ) منه فَأيقَنتُ أنَّ وَجههُ ليسَ بِوجهِ كذابٍ.
ثم دَنَوتُ منه، وشَهدتُ أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
فالتَفَتَ إلي وقال: ( ما اسمُك ؟ )
فقلت: الحُصينُ بنُ سلامٍ.
فقال: ( بل عبدُ الله بنُ سلام ).
فقلت: نعم، عبد الله بن سلام... والذي بَعَثكَ بالحَقِّ ما أحِبُّ أنَّ لي به اسماً آخر بعد اليومِ.
ثم انصرَفتُ من عندِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتي ودعوتُ زَوجتي وأولادِي وأهلي إلى الإسلامِ فأسلموا جميعاً وأسلًمتْ معهم عمتي خالِدةُ، وكانت شيخَةً كبيرةً...
ثم إني قُلتُ لهم: اكتُموا إسلامي وإسلامكُم عن اليَهودِ حتى آذَنَ لكم !!
فقالوا: نعم.
ثم رجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَلتَ له: يا رسول الله، إنَّ اليهودَ قومُ بُهتانٍ وباطِلٍ....
وإني أحبُّ أن تَدعُو وجُوههم ( رؤساءهم وسادتهم ) إليكَ..
وأن تستُرني عَنهُم في حُجرةٍ من حُجُراتك ثم تسألهم من مَنزِلتِي عِندهم قبل أن يَعلموا بإسلامي ثم تدعوهم إلى الإسلام.
فإنهم إن عَلِموا أنَّنِي أسْلَمتُ عابوني، ورَمَوني بِكل ناقِصةٍ وبَهتُوني ( افتراء الكذب )...
فأدخّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض حُجُراتهِ، ثم دعاهم إليه وأخذَ يَحضُّهم على الإسلام، ويُحَبِّبُ إليهم الإيمانَ، ويُذَكرُهُم بِما عَرَفوه في كُتُبهم من أمرِهِ..
فجعلوا يجادلونه بالباطل، ويمارونه ( ينازعونه ) في الَحقِّ، وأنا أسمَعُ، فلما يَئِسَ من إيمانِهم قال لهم: ( ما مَنزلةُ الحصينِ بن سلامٍ فيكم؟ ).
فقالوا: سيدُنا وابنُ سيدنا وحَبرُنا وعالِمُنا وابنُ حبرِنا وعالمِنا.
فقال: ( أَفَرأيتُمْ إنْ أسلمَ أفَتُسلمون؟ )
قالوا: حاشا للَه، ما كان لِيُسلمَ... أعاذهُ اللهُ من أن يُسلمَ..
فخرجتُ إليهم وقلت: يا معشرَ اليهودِ، اتَّقُوا الله واقبلُوا ما جاءَكم بهِ محمدٌ.
فواللهِ إنكمْ لتعلمُون إنه لرسولُ الله، وتجدونه مكتوباً عندكمْ في التوراةِ باسمِهِ وصفتِهِ.
وإني أشهَدُ أنَّه رسولُ الله وأومن به، وأصدِّقه، وأعرفُه...
فقالوا: كذبت. والله إنَّك لشَرُّنا وابن شَرِّنا، وجاهِلنا وابنُ جاهِلنا، ولم يتركوا عَيباً إلا عابُوني به.
فقلت لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ألم أقل لك: إنَّ اليهودَ قومُ بُهتانٍ وباطلٍ، وإنهُم أهلُ غَدرٍ وفجورٍ؟؟
* * *
- أَقبَلَ عبدُ الله بنُ سلامٍ على الإسلامِ إقبالَ الظامئ الذي شاقَه المَوردُ ( لذ له المورد وطاب )....
وأولِعَ بالقُرآنِ؛ فكان لسانُه لا يفتأ رطباً بآياتِه البينات...
وتعلقَ بالنبيِّ صلواتُ الله وسلامُه عليه حتى غدا ألزمَ له من ظِلِّه....
ونَذرَ نفسَه للعَملِ للجنَّةِ حتى بَشَّره بها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بِشارةً ذاعَت بين الصَّحابةِ الكرامِ وشاعت...
وكان لهذه البِشارة قِصةٌ رواها قَيسُ بنُ عُبادةَ وغيرُه.
- قال الراوي: كنت جالساً في حلقةٍ من حَلقاتِ العِلمِ في مسجِدِ رسولِ الله في المدينةِ.
وكان في الحَلقةِ شَيخٌ تَأنَسُ به النَّفسُ ويستروحُ به القلب.
فجَعلَ يحدثُ الناسَ حديثاً حُلواً مؤثراً...
فلما قامَ قال القوم: من سَرَّه أن ينظرَ إلى رَجُلٍ من أهلِ الجنةِ فلينظر إلى هذا.
فقلت: من هذا؟؟!!!
فقالوا: عبدُ الله بنُ سلامٍ.
فقلتُ في نفسي: والله لأتَبَعنَّهُ ؛ فَتَبِعُهُ ؛ فانطلق حتى كاد أن يخرُج من المدينةِ، ثم دَخلَ منزلَه.
فاستَأذَنتُ عليه ؛ فأذِنَ لي.
فقال: ما حاجتُك يا بن أخي؟
فقلت: سمعتُ القومَ يقولون عَنكَ لما خرجتَ من المسجد: من سَرَّه أن ينظرَ إلى رَجُلٍ من أهلِ الجنةِ فلينظر إلى هذا.
فمضَيتُ في إثرِكَ، لأقف على خبركَ، ولأعلَمَ كَيف عَرفَ الناسُ أنكَ من أهلِ الجنَّة.
فقال: الله أعلمُ بأهل الجنَّة يا بُنيَّ.
فقلت: نعم... ولكن لا بُد لما قالوه من سبب.
فقال: هاتِ... وجَزاكَ الله خيراً.
فقال: بينما أنا نائِمٌ ذات ليلةٍ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أتاني رجُلٌ فقال لي: قم، فَقمتُ، فأخَذَ بيَدِي، فإذا أنا بطرِيقٍ عن شمالي فهمَمتُ أن أسلكَ فيها...
فقال لي: دَعها فإنَّها ليست لك...
فنظرتُ فإذا أنا بِطرقٍ واضحةٍ عن يميني فقال لي: اسلُكها...
فسلكتُها حتى أتيتُ رَوضَةً غناءَ واسعةَ الأرجاءِ كثيرةَ الخضرةِ رائعة النُّضرةِ.
وفي وسَطِهَا عمودٌ من حديدٍ أصلُه في الأرضِ ونهايَتُه في السماء.
وفي أعلاهُ حلقةٌ من ذهبٍ.
فقال لي: ارقَ عليه.
فقلت: لا أستطيع.
فجاءني وصِيفٌ ( الخادم ) فَرفَعنِي، فرقيت ( فصعدت ) حتى صِرتُ في أعْلَى العمودِ، وأخذتُ بالحلقةِ بيدي كلتيهما.
وبقيتُ مُتعَلقاً بها حتى أصَبحتُ.
فلما كانت الغداةُ أتَيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَصَصتُ عليه رؤيايَ فقال: ( أما الطريقُ التي رأيتَها عن شِمالكَ فهي طريقُ أصحَابِ الشِّمالِ من أهل النارِ... وأما الطريقُ التي رأيتها عن يمينك فهي طريقُ أصحابِ اليمينِ من أهْل الجنَّة...
وأما الروضةُ التي شاقَتكَ بخُضرتِها ونُضرتِها فهي الإسلام... وأما العمودُ الذي في وسَطِها فَهو عمودُ الدين... وأما الحَلقةُ فهي العُروةُ الوُثقى.... ولن تَزَالَ مُستَمسِكاً بها حتى تموتَ.... ).