* وقف زيدُ بنُ عمرو بنِ نفيلٍ (والد سعيد بن زيد) بعيداً عـن زحمةِ الناس يَشهدُ قريشاً وهي تحتفلُ بعِيدٍ من أعيادها، فرأى الرِّجال يَعتجرُون العمائم - يلفون العمائم- السُندسيَّة الغاليةِ، ويختالون بالبُرود اليمانية الثمينة، وأبصرَ النساءَ والولدان وقد لبسُوا زاهي الثياب وبديعَ الحُلل، ونظرَ إلى الأنعامِ يَقودُها المُوسرُون، بعد أن حَلوها بأنواع الزينةِ، ليذبحُوها بيـن أيدِي الأوثان.
فوقفَ مُسنداً ظهرهُ إلى جدارِ الكعبةِ وقال: يا مَعشرَ قريشٍ: الشاةُ خلقها الله، وهو الذي أنزلَ لها المطر من السماءِ فرويَتْ، وأنبت لها العُشبَ من الأرضِ فشبعَتْ، ثم تذبحونها على غيرِ اسمِه، إني أراكم قوماً تجهلون.
فقام إليه عمّهُ الخطابُ والدُ عُمر بن الخطابِ، فلطمهُ وقال:
تباً لك - خسراناً لك -، ما زِلنا نسمعُ منك هذا البَذاء - الكلام السفيه - ونحتمله، حتى نفِذ صبرُنا، ثم أغرى به سُفهاءَ قومهِ فآذوهُ، ولجّوا في إيذائه، حتى نـزحَ عن مَكة والتجأ إلى جبلِ حِراء، فوكلَ به الخطابُ طائفةً من شبابِ قريشٍ، ليحُولوا دونه ودون دخولِ مكة، فكان لا يدخلها إلا سرِّاً.
- ثم إنَّ زيدَ بن عمرِو بـن نُفيلٍ اجتمعَ - في غفلةٍ من قريشٍ - إلى كلِّ من وَرَقة بن نوفلٍ، وعبد الله بن جَحشٍ، وعثمان بن الحارثِ وأميمَة بنتِ عبد المُطلب عمَّة محمدِ بن عبد الله، وجَعلوا يتذاكرُون ما غرقت فيه العربُ من الضَّلالِ؛ فقال زيدٌ لأصحابه:
إنكم - والله - لتعلمُون أن قومكم ليسُوا على شيءٍ، وأنهُم أخطأوا دين إبراهيمَ وخالفوه، فابتغوا لأنفسكم ديناً تدينون به، إنْ كنتم ترمُون النجَاة.
فهبَّ الرجالُ الأربعة إلى الأحبارِ من اليهودِ والنصَارى وغيرهم من أصحابِ المِللِ، يلتمسون عندهم الحَنيفية دين إبراهيمَ.
أما وَرَقة بن نوفلٍ فتـنصَّرَ.
وأمًّا عبد الله بن جَحشٍ وعثمانُ بن الحارث فلم يَصلا إلى شيءٍ.
وأما زيدُ بنُ عمرو بـن نفيلٍ فكانت له قِصةٌ، فلندع له الكلام ليرويها لنا....
- قال زيدٌ: وقفتُ على اليهُودية والنصرانيَّةِ، فأعــرضتُ عنهما إذا لم أجد فيهما ما أطمَئنُ إليه، وجعلتُ أضربُ الآفاقِ بَحثاً عن مِلة إبراهيم حتى صِـرتُ إلى بلاد الشام، فذكِرَ لي راهبٌ عندهُ علمٌ من الكِتاب، فأتيتهُ فقصصتُ عليه أمرِي، فقال: أراك تريدُ دين إبراهيمَ يا أخا مكة.
قلت: نعم، ذلك ما أبغِي، فقال: إنك تطلبُ ديناً لا يوجدُ اليومَ، ولكن الحَق ببلدك فإنَّ الله يَبعث من قومِك من يُجدِّدُ دين إبراهيمَ، فإذا أدركتهُ فالتزِمهُ.
فقفلَ - رجع من السفر - زيدٌ راجعاً إلى مكة يَحُث الخطى التِماساً للنبيِّ الموعود.
ولما كان في بَعضِ طريقهِ بَعث الله نبيهُ محمداً بدينِ الهُدى والحقَّ؛ لكن زيداً لم يُدركهُ إذ خرجت عليه جماعةٌ من الأعـرابِ فقتلتهُ قبل أن يَبلغ مكة، وتكتحِلَ عيناهُ برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيما كان زيدٌ يَلفِظ أنفاسهُ الأخيرة رفع بَصرهُ إلى السماء وقال: اللهُمَّ إن كنتَ حَرمتني من هذا الخيرِ فلا تحرِم منه ابني " سَعيداً ".
* * *
- وشاءَ الله أن يَستجيب دعوة زيدٍ، فما إنْ قامَ الرسول عليه الصلاة والسلام يَدعو الناس إلى الإسلامِ حتى كان سعيدُ بن زيدٍ في طليعةِ من آمنوا بالله، وصدَّقوا رسالة نبيِّه.
ولا غروَ - ولا عجب - فقد نشأ سعيدٌ في بيتٍ يَستنكرُ ما كانت عليه قريشٌ من الضلالِ، ورُبِّيَ في حِجر أبٍ عاش حياته وهو يَبحث عن الحق....
ومات وهو يَركضُ لاهِثاً وراء الحق....
ولم يُسلم سعيدٌ وحدهُ، وإنما أسلمَت معه زوجته فاطمة بنتُ الخطابِ أختُ عمرَ بن الخطاب.
وقد لقيَ الفتى القرشيُ من أذى قومِه ما كان خليقاُ - جديراً - أن يَفتنه عن دينه، ولكن قريشاً بَدلاً من أن تصرِفهُ عن الإسلامِ استطاع هو وزوجُهُ أن ينتزِعا منها رجُلاً من أثقلِ رجالها وزناً، وأجَلهم خطراً....
حيث كانا سَبباً في إسلام عُمرو بن الخطاب.
* * *
- وضعَ سعيدُ بن عمرِو بن نفيل طاقاته الفتِية الشابة كلها في خدمةِ الإسلامِ، إذ أنهُ أسلمَ وسِنه لم تجاوِزِ العشرين بعدُ، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المَشاهد كلها إلا بَدراً، فقد غابَ عن ذلك اليوم لأنه كان في مُهمةٍ كلفهُ إيّاها النبي عليه الصلاة والسلام.
وأسهَم مع المُسلمين في استلالِ عَرش كسرى وتقويضِ مُلك قيصَـرَ، وكانت له في كل موقعةٍ خاضَ غِمارها المسلمون مواقفُ غرٌ مَشهودة وأيادٍ بيضٌ محمودةٌ.
ولعلَّ أروَع بُطولاته، تلك التي سَجلها يوم اليرمُوك، فلنترُك له الكلام ليقصَّ علينا طرفاُ من خبرِ ذلك اليومِ.
- قال سعيدُ بن عمرِو بن نفيل: لما كان يومُ اليرموكِ كنا أربعاً وعشرين ألفاً أو نحواً من ذلك، فخرجت لنا الرُومُ بعِشرين ومائةِ ألفٍ، وأقبلوا علينا بخطىً ثقيلةٍ كأنهمُ الجبالُ تحَرِكها أيدٍ خفية، وسار أمامهم الأساقِفة والبطارقة والقساوسة يحمِلون الصُلبان وهم يَجهرُون بالصلواتِ فيردِّدُها الجيشُ من ورائهم وله هزيمٌ - صوت الرعد - كهزيم الرَّعد.
فلما رآهمُ المسلمون على حالهم هذه، هالتهُم كثرتهُم، وخالط قلوبهُم شيءٌ من خوفهم.
عند ذلك قامَ أبو عبيدة بن الجراح يَحُضُ المسلمين على القِتال، فقال: عبادَ الله، انصُروا الله يَنصُركم ويُثبت أقدامَكم.
عبادَ الله، اصبرُوا فإن الصَّبر منجاةٌ من الكفر، ومرضاةٌ للربِّ، ومَدحَضة للعارِ - دافع للعار-، واشرعوا الرِّماح - سددوها وصوبوها -، واستترُوا بالترُوسِ، والزموا الصَّمت إلا من ذِكر الله عز وجل في أنفسِكم، حتى آمُركم إن شاء الله.
قال سعيد: عند ذلك، خرجَ رجلٌ من صُفوف المسلمين وقال لأبي عُبيدة: إني أزمَعتُ -عزمت- على أن أقضيَ أمرِي السَّاعَة -أن أموت في هذه الساعة-، فهل لك من رِسالةٍ تبعَث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فقال أبو عبيدة: نعم، تقرِئهُ مني ومن المسلمين السلام، وتقولُ له: يا رسول الله، إنا وَجدنا ما وَعدنَا ربنا حَقاً.
قال سعيد: فما إن سَمعتُ كلامهُ، ورأيتهُ يَمتشقُ حُسامهُ -يستل حسامه- ،ويَمضي إلى لِقاء أعداءِ الله، حتى اقتحَمتُ -رميت نفسي بشدة على الأرض- إلى الأرضِ، وجَثوتُ على رُكبتيَّ، وأشرَعتُ رُمحي وطعنتُ أوَّل فارسٍ أقبل علينا، ثم وثبتُ على العدوِّ وقد انتزع الله كل ما في قلبي من الخوفِ، فثارَ الناسُ في وُجوه الرُوم، وما زالوا يُقاتلونهم حتى كتبَ الله للمؤمنين النصرَ.
* * *
- شهدَ سعيدُ بن زيدٍ بعدَ ذلك فتحَ دمشق، فلما دانت للمسلمين بالطاعةِ، جَعلهُ أبو عبيدة بنُ الجرَّاح والياً عليها، فكان أوَّلَ من ولِيَ إمرة دمشق من المسلمين.
* * *
- ومن زمنِ بني أمَية وقعت لسعيد بن زيدٍ حادثة ظلَّ أهلُ يثـربَ يَتحدثون بها زمناً طويلاً.
ذلك أنَّ أروَى بنتَ أوَيسٍ زعَمت أن سعيدَ بن زيدٍ فد غصَبَ شيئاً من أرضِها وضمَّها إلى أرضِه، وجَعلت تلوك ذلك - تردده - بين المسلمين وتتحدَّث به، ثم رفعت أمرها إلى مَروان بن الحكمِ والي المدينة، فأرسلَ إليه مروانُ أناساً يُكلمونه في ذلك، فصَعُبَ الأمرُ على صاحب رسول الله وقال: يَرونني أظلمُها!! كيف أظلمُها؟! وقد سَمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( من ظلمَ شبراً من الأرضِ طوِّقه يومَ القيامة من سبعِ أرضين ). اللهُمَّ إنها قد زعَمَت أني ظلمتها، فإن كانت كاذِبةً، فأعمِ بَصرها وألقها في بئرِها الذي تنازعني فيه، وأظهر من حَقي نوراً يُبيِّن للمسلمين أني لم أظلِمها.
فلم يَمض على ذلك غيرُ قليلٍ، حتى سالَ العقيق - واد في المدينة يجري فيه السيل - بسيل ٍ لم يَسل مثلهُ قط، فكشفَ عن الحدِّ الذي كانا يَختلفان فيه، وظهرَ للمسلمين أن سعيداً كان صادِقاً.
ولم تلبثِ المرأة بعد ذلك إلا شهراً حتى عَمِيتْ، وبينما هي تطوفُ في أرضها تلك، سَقطت في بئرِها.
قال عبدُ الله بن عمرَ: فكنا ونحنُ غلمانٌ نسمَعُ الإنسان يقولُ للإنسان: أعماك الله كما أعمى الأروَى.
ولا عجبَ في ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول:( اتقوا دَعوة المظلومِ، فإنه ليسَ بينها وبين الله حِجابٌ ).
فكيف إذا كان المظلومُ سعيدَ بن زيدٍ، أحدُ العشرةِ المُبشّرين بالجنة؟!.