أطلس الحج والعمرة تاريخاً وفقهاً
القسم الأول ((التاريخي))
أولاً:
مكة المكرمة والمشاعر المقدسة
الباب الثالث:
بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم, وصفة الحج الذي بينه؟!
* بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:
- لما تقاربت سن الرسول صلى الله عليه وسلم الأربعين, وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه عبدة الأوثان, حبب الله إليه الخلاء, فكان يأخذ السّوِيق فيه شهر رمضان, ويقضي وقته في العبادة والتفكير بما حوله من مشاهد الكون, وفيما وراءها من قدرة مبدعة, وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة, وتصوراتها الواهية, ولكن ليس بين يديه طريق واضح, ولا منهج محدد, ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
- وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً من تدبير الله له, وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض, وضَجّة الحياة, وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم, فيستعد لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض, وتعديل خط التاريخ... دبر الله له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات, ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان, ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون, حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله.
- قالت عائشة رضي الله عنها:( كانَ أوَّلُ ما بُدِئَ بهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الرؤيا الصادقةُ في النومِ ، فكانَ لا يرَى رؤيَا إلا جاءتْ مثلَ فَلَقِ الصُّبحِ ، ثم حُبِبَ إليهِ الخَلاءُ ، فكانَ يلْحَقُ بغارِ حِرَاءٍ ، فيَتَحَنَّثُ فيهِ - قالَ: والتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ - الليالِيَ ذواتِ العددِ قبْلَ أن يَرجِعَ إلى أهلِهِ ، ويَتَزَوَّدُ لذَلِكَ ، ثمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ ، فيَتَزَوَّدُ بمثْلِهَا ، حتى فَجِئَهُ الحقُّ وهوَ في غَارِ حِرَاءٍ ،
ففجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقرأْ ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:( ما أنَا بِقَارِئٍ ). قالَ:( فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتى بلغَ مني الجَهدَ ، ثم أرسلنِي فقالَ: اقرأْ ، قلتُ: ما أنَا بقارِئٍ ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانيةَ حتى بلَغَ مني الجَهدَ ، ثم أرسلَني فقالَ: اقرأْ ، قلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ ، فأخذَنِي فَغَطَّنِي الثَالِثَةَ حتى بلَغَ مني الجَهْدَ ، ثمَّ أرسلَنِي فقالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ . الآياتِ إلى قَوْلِهِ: عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ).
فرجَعَ بهَا رسولُ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ، حتى دَخَلَ على خَدِيجَةَ ، فقالَ:( زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ). فَزَمَّلوهُ حتَّى ذهَبَ عنهُ الروعُ. قالَ لخَدِيجَةَ:( أيْ خَدِيجَةُ ، مَا لِي ، لقدْ خَشِيتُ على نفسِي ). فأخبرَهَا الخَبَرَ ، قالتْ خَدِيجَةُ: كلَّا ، أَبْشِرْ ، فواللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أبدًا ، فواللهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرحِمَ ، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ ، وتَقْرِي الضَّيْفَ ، وتُعِينُ على نَوَائِبِ الحقِّ . فانْطَلَقَتْ بهِ خديجةُ حتَّى أَتَتْ بهِ وَرَقَةَ بنَ نَوْفَلٍ ، وهوَ ابنُ عمِّ خديجَةَ أَخِي أبِيهَا ، وكانَ امرأً تَنَصَّرَ في الجاهِلَيَّةِ ، وكانَ يكْتُبُ الكتابَ العربِيَّ ، ويكتُبُ من الإنجيلِ بالعربيةِ ما شاءَ اللهُ أن يكتُبَ ، وكانَ شيخًا كبيرًا قد عَمِيَ ، فقالتْ خديجةُ: يا ابنَ عَمِّ ، اسمَعْ من ابْنِ أخِيكَ ، قالَ ورَقَةُ: يا ابنَ أخِي ، ماذا تَرَى ؟ فأَخْبَرهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خَبَرَ ما رأَى ، فقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي أُنِزَل على موسَى ، لَيْتَنِي فيهَا جذَعًا ، ليتَنِي أكُونُ حيًّا ، ذَكَرَ حَرفًا ، قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:( أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ). قالَ وَرَقَةُ: نَعمْ ، لم يأتِ رجلٌ بمَا جِئْتَ بهِ إلا أُوِذِيَ ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَومُكَ حيًا أنْصُرُكَ نصرًا مُؤَزَّرًا. ثمَّ لم يَنْشَبْ ورقةُ أنْ تُوُفِّيَ ، وَفَتَرَ الوحْيُ فَتْرَةً ، حتى حَزِنَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ) صحيح البخاري.
- يصل ارتفاع جبل النور إلى 642 متراً, ويصير انحدار الجبل شديداً من ارتفاع 380 متراً حتى يصل إلى ارتفاع 500 متر, ثم يستمر بانحدار قائم الزاوية تقريباً حتى قمة الجبل في شكل جرف. وتبلغ مساحته 5,25 كم مربع.
- كان الرسول لصلى الله عليه وسلم قبل بعثته, يخلو بـ ( غار حراء ) في جبل النور ـ الذي يقع في شمال شرقي المسجد الحرام ويطل على طريق العدل والذي سمي بهذا الاسم لظهور أنوار النبوة فيه, ـ حيث كان عليه السلام يَتَعبَّدُ فيه الليالي ذواتِ العدد, إذ بُغَّضَت إليه الأوثان ودينُ قومه, فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك. فلما كَمُلَ له أربعون سنة, أشرق عليه نُور النبوة, وأكرمه الله تعالى برسالته, وبعثه إلى خلقه, واختصه بكرامته, وجعله أمينه بينه وبين عباده.
- قال تعالى:( لَّقَد صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّءيَا بالحَقّ لَتَدخُلُنَّ المَسجدَ الحَرَامَ إن شَاء الله ءامنينَ مُحلّقيِنَ رُءُوسكُم ومُقَصّرينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلم مَا لمَ تَعلمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلكَ فَتحَا قَريباً * هُوَ الذَّي أَرَسَلَ رسُولهُ بالهُدَى ودِينِ الحَقّ ليُظهَرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وكَفَى بالله شَهيدَاَ ) سورة الفتح.
- خرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى مكة قاصداً العُمرة, كما اتفق مع قريش في صلح الحديبية, حيث اشترطت قريش على المسلمين ألا يدخلوا مكة بالسلاح إلا السيف في القراب, وألا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه. وألا يمنع الرسول من أصحابه أحداً إن أراد يقيم بها, وقاضاهم أن يقيم في مكة ثلاثة أيام ثم يخرج منها, فطاف المسلمون بالبيت, وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم, أن يظهروا القوة والجلد في طوافهم؛ لأن قريشاً أشاعت أن المسلمين قد أصابهم الوهن من حُمَّى يثرب, فأرملوا, وسارعوا بالعدو في الأشواط الثلاثة الأولى, وكانت قريش قد تركت مكة إلى جبا قعَيقعِان تنظر غلى المسلمين وهم يطوفون بالبيت؛ بعد أن تحقق للمسلمين ما أرادوا من صلح الحديبية العظيم!.
- عن ابن عباس قال:( تزوَّجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ميمونة في عُمرةِ القضاء) رواه البخاري. وهي ميمونة بنت الحارث الهلالية.
* حج أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة 9هـ بعد مقدمه من تبوك:
- قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله منصرفَه من تبوك بقية َرمضانَ, وشوالاً, وذا القَعدة, ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج سنة تسع؛ ليقيم للمسلمين حجهم, والنَّاس من أهل الشرك على منازلهم من حَجهم, فخرج أبو بكر, والمؤمنون.
- قال ابن سعد: فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة, وبعث معه رسول الله بعشرين بدنة, قلدها, وأشعرها بيده, عليها ناجية بن جندب الأسلمي, وساق أبو بكر خمس بدنات, قال ابن إسحاق: فنزلت براءة في نقض ما بين رسول الله وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه, فخرج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ناقة رسول الله العضباء. قال ابن سعد: فلما كان بالعرج ـ وابن عائذ يقول: بضَجَنان ـ لحقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على العضباء, فلما رآه أبو بكر, قال: أميرٌ أو مأمورٌ؟ قال: لا, بل مأمور, ثم مضيا.
- وقال ابن سعد: فقال له أبو بكر: أستعملك رسول الله على الحج؟ قال: لا, ولكن بعثني اقرأ براءة على الناس, وأنبذ إلى كل ذي عهدٍ عهده, فأقام أبو بكر للناس حجهم, حتى إذا كل يوم النحر, قال علي بن أبي طالب, فأذَّن في الناس عند الجمرة بالذي أمره رسول الله, ونبذ إلى كل ذي عهد عهده, وقال: أيها الناس لا يدخل الجنة كافر, ولا يحجّ بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, ومن كان له عهد عند رسول الله, فهو إلى مدته.
- وقال الحميدي: حدثنا سفيان, قال: حدثني أبو إسحاق الهَمدَاني, عن زيد بن يثَيع, قال: سالنا علياً, بأي شيء بُعثِتَ في الحَجَّةِ؟ قال: بعثتُ بأربعٍ : لا يدخلُ الجنةَ إلا نفسٌ مؤمنةٌ ، ولا يطوفُ بالبيتِ عريانٌ ، ولا يجتمعُ مسلمٌ وكافرٌ في المسجدِ الحرامِ بعد عامِه هذا ، ومن كان بينه وبين النبيِّ عهدٌ فعهدُه إلى مُدَّتِه ، ومن لم يكنْ له عهدٌ فأجلُه إلى أربعةِ أشهرٍ.
- وفي (الصحيحين): عن أبي هريرة, قال: بعَثَني أبو بكرٍ في تِلكَ الحَجَّةِ، في مُؤَذِّنينَ يومَ النَّحرِ، نُؤَذِّنُ بمِنًى : ألا لا يَحُجَّ بعدَ العامِ مُشرِكٌ ولا يَطوفَ بالبَيتِ عُريانٌ، قال حُمَيدُ بنُ عبدِ الرَّحمَنِ : ثم أرْدَفَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علِيًّا، فأمَرَه أنْ يُؤَذِّنَ ب بَراءَةٌ . قال أبو هُرَيرَةَ : فأذَّنَ مَعنا علِيٌّ في أهلِ مِنًى يومَ النَّحْرِ : لا يَحُجُّ بعدَ العامِ مُشرِكٌ ولا يَطوفُ بالبَيتِ عُرْيانٌ.
اللهمّ صلِّ وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين