* كان وضيء الوجه، بهيّ الطلعة، نحيل الجسم، طويل القامة، خفيف العارضين، ترتاح العين لمرآه، وتأنس النفس للقياه، ويطمئن إليه الفؤاد.
وكان إلى ذلك رقيق الحاشية، جمّ التواضع، شديد الحياء، لكنه كان إذا اشتد الأمر وجد الجِدّ يغدو كأنّه الليث عادياً.
فهو يشبه نصل السيف رونقا وبهاء، ويحكيه ( أي يماثله ) حدّة ومضاء.
ذلك هو أمين أمة محمد، عامر بن عبد الله بن الجراح الفهريّ القرشي، المكنّى بأبي عبيدة.
نعته عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: ثلاثة من قريش أصبح الناس وجوهاً، وأحسنها أخلاقا، وأثبتها حياءً، إن حدثوك لم يَكْذِبُوك وإن حدثتهم لم يُكذِّبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفّان وأبو عبيدة بن الجراح.
* * *
- كان أبو عبيدة من السابقين الأولين إلى الإسلام، فقد أسلم في اليوم التالي لإسلام أبي بكر، وكان إسلامه على يدي الصديق نفسه، فمضى به وبعبد الرحمن بن عوف وبعثمان بن مظعون وبالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلنوا بين يديه كلمة الحق، فكانوا القواعد الأولى التي أقيم عليها صرح الإسلام العظيم.
* * *
- عاش أبو عبيدة تجربة المسلمين القاسية في مكّة منذ بدايتها إلى نهايتها، وعانى مع المسلمين السّابقين من عنفها وضراوتها وآلامها وأحزانها مالم يعانيه أتباع دين على ظهر الأرض؛ فثبت للإبتلاء، وصدق الله ورسوله في كل موقف.
لكنَّ محنة أبي عبيدة يوم بدر فاقت في عنفها حسبان الحاسبين وتجاوزت خيال المتخيلين.
* * *
- انطلق أبو عبيدة يوم بدر يصول بين الصفوف صولة من لا يهاب الردى، فهابه المشركون، ويجول جولة من لا يحذر الموت، فحذره فرسان قريش وجعلوا يتنحون عنه كلما واجهوه...
لكن رجلا واحدا منهم جعل يبرز لأبي عبيدة في كل اتجاه؛ فكـان أبو عبيدة يتحرّف عن طريقه ويتحاشى لقاءه.
ولجّ الرجل في الهجوم، وأكثر أبو عبيدة من التنحي، وسد الرجل على أبي عبيدة المسالك، ووقف حائلاً بينه وبين قتال أعداء الله.
فلما ضاق به ذرعا ضرب رأسه بالسيف ضربة فلقت هامته فلقتين؛ فخّر الرجل صريعا بين يديه.
لا تحاول - أيها القارئ الكريم – أن تخمّن من يكون الرجل الصريع..
أما قلت لك: إن عنف التجربة فاق حسبان الحاسبين، وجاوز خيال المتخيلين؟
ولقد يتصدع رأسك إذا عرفت أن الرجل هو عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة.
* * *
- لم يقتل أبو عبيدة أباه، وإنما قتل الشرك في شخص أبيه.
فأنزل الله سبحانه في شان أبي عبيدة وشأن أبيه قرآنا فقال علت كلمته: { لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } المجادلة:22.
* * *
- لم يكن ذلك عجيبا من أبي عبيدة، فقد بلغ في قوّة إيمانه بالله ونصحه لدينه، والأمانة على أمة محمد مبلغا طمحت إليه نفوس كبيرة عند الله.
- حدّث محمد بن جعفر، قال: قدِم وفد من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ليحكم بيننا في أشياء من أموالنا اختلفنا فيها، فإنكم عندنا معشر المسلمين مرضيون.
- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين ).
- قال عمر بن الخطّاب: فرحت إلى صلاة الظهر مبكرا، وإني ما أحببت الإمارة حُبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحب هذا النعت...
فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، جعل ينظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يقلب بصره فينا حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: ( اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه )، فقلت: ذهب أبو عبيدة.
* * *
- ولم يكن أبو عبيدة أمينا فحسب، وإنما كان يجمع القوّة والأمانة، وقد برزت هذه القوة في أكثر من موطن:
برزت يوم بَعَث الرسول جماعة من أصحابه ليتلقوا عيرا لقريش، وأمر عليهم أبا عبيدة رضي الله عنهم وعنه، وزودهم جرابا من تمر، لم يجد لهم غيره، فكان أبو عبيدة يعطي الرجل من أصحابه كل يوم تمرة، فيمصها الواحد منهم كما يمص الصبي ضرع أمه، ثم يشرب عليها ماء؛ فكانت تكفيه يومه إلى الليل.
* * *
- وفي يوم أحد حين هزم المسلمون وطفق صائح المشركين ينادي: دلوني على محمد... دلوني على محمد... كان أبو عبيدة أحد العشرة الذين أحاطوا بالرسول صلى الله عليه وسلم ليذودوا عنه ( أي ليدافعوا عنه ) بصدورهم رماح المشركين.
فلما انتهت المعركة كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد كسرت رباعيته ( الرباعية هي السن التي بين الثنية والناب ) وشج جبينه وغارت في وجنته حلقتان من حلق درعه، فأقبل عليه الصديق يريد انتزاعهما من وجنته فقال له أبو عبيدة: أقسم عليك أن تترك ذلك لي، فتركه، فخشي أبو عبيدة إن اقتلعهما بيده أن يؤلم رسول الله، فعض على أولاهما بثنيته ( الثنية جمع ثنايا وهي أسنان مقدم الفم ) عضاً قوياً محكما فاستخرجها ووقعت ثنيته...
ثم عض على الأخرى بثنيته الثانية فاقتلعها فسقطت ثنيته الثانية...
قال أبو بكر: ( فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هَتَماً ) " والأهتم هو من انكسرت ثنيتاه ".
* * *
- لقد شهد أبو عبيدة مع رسول الله صلوات الله عليه المشاهد كلها منذ صحبه إلى أن وافاه اليقين. فلما كان يوم السقيفة ( المراد به يوم بيعة أبي بكر رضي الله عنه، فقد تمت بيعته في سقيفة بن ساعدة ) ، قال عمر بن الخطاب لأبي عبيدة: ابسط يدك أبايعك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن لكل أمة أمينا، وأنت أمين هذه الأمة ).
فقال أبو عبيدة: ما كنت لأتقدم بين يدي رجل أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمّنا في الصلاة فأمّنا حتى مات.
ثم بويع بعد ذلك لأبي بكر الصديق، فكان أبو عبيدة خير نصيح له في الحق، وأكرم معوان له على الخير.
ثم عهد أبو بكر بالخلافة من بعده إلى الفاروق فدان له أبو عبيدة بالطاعة، ولم يعصه في أمر، إلا مرة واحدة.
فهل تدري ما الأمر الذي عصا فيه أبو عبيدة أمر خليفة المسلمين؟!
لقد وقع ذلك حين كان أبو عبيدة بن الجراح في بلاد الشام يقود جيوش المسلمين من نصر إلى نصر حتى فتح الله على يديه الديار الشامية كلها...
فبلغ الفرات شرقا وآسيا الصغرى شمالاً.
عند ذلك دهم بلاد الشام طاعون ما عرف الناس مثله قط فجعل يحصد الناس حصدا...
فما كان من عمر بن الخطاب إلا أن وجّه رسولا إلى أبي عبيدة برسالة يقول فيها: إني بدت لي إليك حاجة لا غنى لي عنك فيها، فإن أتاك كتابي ليلا فإني أعزم عليك ألا تصبح حتى تركب إليّ، وإن أتاك نهارا فإني أعزم عليك ألا يمسي حتى تركب إليّ، فلما أخذ أبو عبيدة كتاب الفاروق قال: قد علمت حاجة أمير المؤمنين إلي، فهو يريد أن يستبقي من ليس بباق، ثم كتب إليه يقول: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين ولا أجد بنفسي رغبة عن الذي يصيبهم... ولا أريد فراقهم حتى يقضي الله فيَّ وفِيهِم أمره... فإذا أتاك كتابي هذا فحللني من عزمك، وائذن لي بالبقاء.
فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضت عيناه، فقال له من عنده ( لشدة ما رأوه من بكائه ): أمات أبو عبيدة يا أمير المؤمنين؟
فقال: لا، ولكن الموت منه قريب.
ولم يكذب ظن الفاروق، إذ ما لبث أبو عبيدة أن أصيب بالطاعون، فلما حضرته الوفاة أوصى جنده فقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا، وحجوا واعتمروا، وتواصوا، وانصحوا لأمرائكم ولا تغشوهم ولا تلهكم الدنيا، فإن المرء لو عُمِّر ألف حول ما كان له بُدٌّ من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون...
والسلام عليكم ورحمة الله.
ثم التفت إلى معاذ بن جبل وقال: يامعاذ، صلِّ بالناس.
ثم مالبث أن فاضت روحه الطاهرة، فقام معاذ وقال: أيها الناس: إنكم قد فجعتم برجل , والله ما أعلم أني رأيت رجلا أبرّ صدرا ولا أبعد غائلة ( الغائلة جمع غوائل وهي الشر والحقد الباطن ) ولا أشدّ حبا للعاقبة ولا أنصح للعامّة منه، فترحموا عليه يرحمكم الله.