أطلس الحج والعمرة ((تاريخاً وفقهاً))
القسم الأول ((التاريخي))
ثانياً :
المدينة النبوية
الباب الأول:
المدينة النبوية وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها
* وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب (المدينة):
نزل موكب الرسول عليه السلام إلى قُباء, في يوم الأثنين الثاني عشر من ربيع الأول, سنة وثلاث عشرة من البعثة المباركة, حيث تلقاه المسلمون مبتهجين, وأخذوا يكبّرون الله, ويشكرونه على مجيئ المصطفى عليه السلام إلى ديارهم, والعيش معهم, فمكث في قُباء ثلاثة أيام, وضع خلالها أساس أول مسجد في الإسلام؛ حيث يعتبر مسجد قُباء بذلك أول مسجد بُني منذ انطلاق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الأرض.
فسواء كان الذين اختاروا موضعه ابتداءٍ, هم المهاجرون, والأنصار, قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم, أم كان الذي اختار موضعه هو النبي صلى الله عليه وسلم قبيل دخوله المدينة النبوية لأول الهجرة ـ على المشهور ـ فإن ذلك لا يُغَيِّر من كونه أول مسجد بني منذ انطلاق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك دلالته الكبرى التي لا تنكر, ثم لحق بهم علي بن أبي طالب بعد أن قام بمهامه على الوجه المطلوب (التمويه على قريش, وإعطاء الأمانات إلى أهلها) ثم تحرك الركب الميمون صوب يثرب صباح الجمعة.
فخرج المسلمون يستقبلونه بغبطة وسرور, وكان كل نفر من المسلمين يتمنى أن ينزل الرسول الله صلى الله عليه وسلم عنده, فتسابقوا يمسكون بخطام ناقته, وهو يقول لهم:( دعوها فإنها مأمورة ), وبركت ناقة الرسول عليه السلام في قطعة أرض لبني مالك بن النجار, وكان يسمى مِربداً, وهو لغلامين يتيمين هما: سهل, وسهيل ابنا عمرو, فنزل صلى الله عليه وسلم عن الناقة, ودخل بدار خالد ابن يزيد ((أبو أيوب الأنصاري)) واشترى المِربد من ابني عمرو, وبدأ ببناء المسجد, وسَمَّى عليه السلام من جاء من مكة من المسلمين ((المهاجرين)), وسَمَّى من أسلم أهل المدينة ((الأنصار)), وأُطلِق على يثرب اسم مدينة الرسول, وغيَّر اسمها ودعاها بالمدينة, وطيبة, وطابة, ونهى عن تسميتها بيثرب, فَعن جَابر بن سَمُرَةَ, قَالَ: سَمِعتُ رسَوُل الله يَقُولُ:( إِنَّ الله تَعَالىَ سَمَّى المِديَنةَ طابَة ) صحيح مسلم.
مسجد التقوى
قيل:لما قدم النبي عليه السلام, مهاجراً نزل بقُباء على بني عمرو بن عوف, فأقام فيهم يوم الأثنين, ويوم الثلاثاء, ويم الأربعاء, ويوم الخميس, وأسّس مسجده, ثم أخرجه الله من بين أظهُرهم يوم الجمعة, وذكر ابن أبي خيثمة أنّ رسول الله عليه السلام, حين أسّسه كان هو أول من وضع حَجَراً بيده قِبلتَهِ, ثم جاء أبو بكر بحَجَر فوضعه, ثم جاء عمر بحَجَر فوضعه إلى جنب حَجَر أبي بكر, ثم أخذ الناس في البنيان, وهذا المسجد أول مسجد بُني في الإسلام, وفيه وفي أهله نزلت:( فيه رجال يحبون أن يتطهّروا )؛ وهو هذا هو المسجدُ الذي أُسِّس على التقوى, وإن كان روى أبو سعيد الخدري, أنّ رسول الله, صلى الله عليه وسلم, سُئِلَ عن المسجد الذي أُسِّس على التقوى, فقال: هو المسجد هذا, وفي رواية أُخرى, قال: وفي الآخر خيرٌ كثيرٌ, وقد قال لبني عمرو بن عوف حين نزل:( لَمَسجِدٌ أُسّس على التقوى من أول يوم ) ما الطهور الذي أثنى الله به عليكم؟ فذكروا له الاستنجاء بالماء بعد الاستجمار, قال: هو ذاكم فعليكموه. وليس بين الحديثين تعارُضٌ؛كلاهما أُسِّس على التقوى, غير أن قوله من أول يوم يقتضي مسجد قُبَاء؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم من حلوله صلى الله عليه وسلم, دار هجرته, وهو أول التاريخ للهجرة المباركة, ولعلم الله تعالى بأن ذلك اليوم سيكون يوم من التاريخ سّماه أول يوم أُرّخ فيه في قول بعض الفضلاء, وقد قال بعضهم: إن ههنا حذف مضاف تقديره تأسيس أول يوم, والأول أحسن.
على اليمين خارطة فضائية من ((جوجل إرث)) تبين موقع مسجد قُباء في جنوب غربي المدينة النبوية, والذي يبعد عن المسجد النبوي حوالي 5كم. وفيه بئر تنسب لأبي أيوب الأنصاري, وفي أعلى اليسار صورة تاريخية للمسجد النبوي.
وفي الأسفل صورة المسجد في العهد السعودي الميمون.
حدَّثنا عبد الله, حدثني أبي, ثنا يحيى, عن أنيس بن أبي يحيى قال: حدثني أبي قال: سمعت أبا سعيد يقول: (ختلف رجلان أو امتريا, رجل من بني خدرة, ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى, قال الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال العمري: هو مسجد قُباء, فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال:( اهو هذا المسجد؛ لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال: في ذلك خير كثير يعني مسجد قُباء ).
* بناء المسجد النبوي الشريف:
- كان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في بني النجار يوم الجمعة 12 ربيع الأول سنة 1هـ ـ الموافق 27سبتمبر سنة 622م, وأنه نزل في أرض أمام دار أبي أيوب الأنصاري, وقال: هاهنا المنزل إن شاء الله, ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب رضي الله عنه.
* بناء المسجد النبوي:
- أول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو بناء المسجد النبوي, واختار له المكان الذي بركت فيه ناقته صلى الله عليه وسلم, فاشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه, وأسهم في بنائه بنفسه, فكان ينقل اللَّبِن والحجارة ويقول:
اللهم لا عَيشَ إلا عيَشُ الآخرة فاغِفر للأنصار والمُهاَجِرةَ
- وكان يقول:
هذا الحِمَالُ لا حِمَال خَيبَر هذا أبَرُّ رَبَّنَا وأطهَر
- وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في العمل, حتى إن أحدهم ليقول:
لئن قَعَدنا والنبي يَعمَل ذاك منَّا العَمَلُ المُضَللَّ
- وكانت في ذلك المكان قبور للمشركين, وكان فيه خرب, ونخل, وشجرة من غَرقدَ, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت, وبالخَرب فسويت, وبالنخل والشجرة فقطعت, وصفت في قبلة المسجد, وكانت القِبلةَ إلى بيت المقدس, وجُعِلت عضادتَاه من حجارة, وأقيمت حيطانه من اللَّبِن والطين, وجعل سقفه من جريد النخل, وعمُدُه الجذوع, وفرشت أرضه بالرمال, والحصباء, وجعلت له ثلاثة أبواب, وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع, والجانبان مثل ذلك أو دونه, وكان أساسه قريباً من ثلاثة أذرع. وبني بجانبه بيوتاً بالحجر واللَّبِن, وسقفها بالجريد, والجذوع, وهي حُجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم, وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب.
- ولم يكن المسجد موضعاً لأداء الصلوات فحسب؛ بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته, ومنتدى تلتقي وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها, وقاعدة لإدارة جميع الشؤون وبث الانطلاقات, وبرلمان لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية.
- وكان مع هذا كله داراً يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين (أهل الصُّفّة), الذين لم يكن لهم هناك دار, ولا مال, ولا أهل, ولا بنون. وفي أوائل الهجرة شُرِع الأذان, حيث رأى في المنام؛ عبد الله بن زيد ابن عبد ربه رضي الله عنه صيغة الأذان؛ فأقره النبي عليه السلام على ذلك, وقد وافقت رؤياه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فأقره النبي عليه السلام.
مرتسم يدوي تخيلي للمسجد النبوي في عصر النبوة
- كان اسم المدينة النبوية "يثرب" قبل هجرة الرسول عليه السلام إليها, ويثرب اسم رجل كان أول من سكن المدينة النبوية بعد الطوفان, وهناك أكثر من رواية حول سبب التسمية, إلاّ أن الثابت أن العرب عند ظهور الإسلام كانوا يدعونها بهذا الاسم. ثم تغير إلى اسم "المدينة النبوية" بعد الهجرة النبوية المباركة.
- وحسب المدينة النبوية: أنها دار الإيمان, ومتبوأ الهدى والفرقان, والعاصمة الأولى للإسلام, وحاضنة مسجد رسول الله وقبره الشريف, فالاسم المعروفة به هو " المدينة", وهو علم عليها إذا أطلقت كلمة المدينة دون إضافة, وقد ذكر هذا الاسم في القرآن الكريم في أربعة مواضع, كما ذكر في السُّنَّة النبوية أيضاً, ويضاف إليها ((النبوية)) لسكن الرسول عليه السلام فيها؛ ويضاف إليها أيضاً "المنورة"؛ لأنها أضاءت بنور الله, وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
- لقد نالت المدينة النبوية حباً كبيراً من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ, وكانت لها المكانة العالية الجلية في قلبه, هذا مما جعل المسلمون يُكنُّون لها كل الحب؛ محبة لله, ورسوله, وإتباعاً للسُّنَّة المطهرة؛ لأن الله ـ تعالى ـ قد فرض علينا أن نحب ما كان يحبه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وروى الإمام أحمد في مسنده (من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله عز وجل هي طابة, هي طابة).
- وذكر البخاري في تاريخه قول النبي صلى الله عليه وسلم:( من قال يثرب مرة, فليقل المدينة عشر مرات ) وفي هذا القول الكريم مدلول على ما دلنا عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن تسمية التي لحقت بها (أي يثرب) إنما جاءت على عهد اليهود الذين سموها بها, وهي تعني الفساد ـ عياذاً بالله تعالى ـ.