الباب الثاني: الدولة الأموية في الأندلس

الفصل الرابع: عهد الحاجب المنصور

ثانياً: الحاجب المنصور

- عهد جديد، عهد الحاجب المنصور، من ألمع الأسماء في تاريخ الأندلس، فكيف استطاع هذا الرجل أن يملأ الدنيا ويشغل الناس في الأندلس والشمال الإفريقي ويدخل التاريخ؟ أنه يذكرنا بعبد الرحمن الداخل وحده.

- ولد عام 326هـ في منطقة الجزيرة الخضراء في مدينة "تركش" جنوب الأندلس، ونسبه: محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، وكان الجد الأخير من قواد الجيش الذين فتحوا الأندلس ودخلوها مع طارق بن زياد. ولما بلغ توجه نحو قرطبة - عاصمة العلم والمعرفة - فكان يحضر مجالس الفقه حريصاً عليه بالرغم من فقره، وانشغاله لتأمين قوته وقوت أولاده، فتتلمذ  على جميع فقهاء قرطبة، ولما حصلت فتنة الفاطميين في الشمال الإفريقي، اشترك متطوعاً في الجيش الذي أرسل لقمع الثورة، فلما رجع تطوع في الشرطة حتى أصبح قائدها في العاصمة قرطبة كما مرّ، وهو الآن عام 366هـ  في مجلس الوصاية الذي يدير شؤون الأندلس، ثم أصبح الحاكم الحقيقي فيما بعد ولذا عدّه بعض المؤرخين بداية لعهد جديد في الأندلس.

الفارس المسلم الحاجب المنصور

* الحاجب المنصور:

* عام 366هـ - 977م ابن أبي عامر يحمي الخليفة:

- لما مات المستنصر بالله حدث أمر خطير: ذلك أن جنود الجيش (وكانوا يسمون الصقالبة وهم قوم يؤتى بهم من مختلف البلاد الإفرنجية ذكوراً أو إناثاً إلى الأندلس، ثم تتولى الدولة رعايتهم، فينشئون نشأة إسلامية، وقد كان لهم دور كبير في عدد من حوادث الأندلس إذ كانوا يشكلون غالبية حرس الإمارة أو الخلافة) هؤلاء لم يرضواْ أن يعيّن هشام المؤيد بالله لصغر سنه أو غير ذلك، فثاروا وضجّوا يريدون أن يولوا المغيرة بن عبد الرحمن الناصر (عم هشام) إذ كان عمره سبعاً وعشرين سنة، فلما رأى محمد بن أبي عامر ذلك منهم بادر بمجموعة من شرطته غير آبه بالصقالبة أو غيرهم، وتوجه إلى منزل المغيرة فقتله – قيل قتله خنقاً-، وبعمله هذا قد أيد موقف هشام وأبقاه خليفه.

- أيدت موقفه هذا أم الخليفة (صبح البشكنسية) وكانت قد أسلمت، ودعمته، وهل كان هناك من هو أقوى من سلطة المرأة إن كانت مقربة أو أثيرة لدى أولي الأمر، أجرى محمد بن أبي عامر بعض التغييرات في تشكيلة الحرس الخاص للخليفة من الصقالبة واستبدلهم بعناصر من الشرطة الموالين له، ولم يعارضه أحد.

صندوق من العاج في الأندلس

* عام 366هـ - 977م التصدي للهجوم النصراني:

- وفي عام 366هـ سمع نصارى الشمال بالحكم الجديد في قرطبة، وببعض الاضطرابات التي وقعت فيها، فهاجمت مجموعة من مملكة ليون قلعة رباح إحدى ثغور المسلمين واقتحمتها وارتكبت مذبحة دامية في سكانها، فلم يقم الوزير المصحفي بأي شيء، ولم يبد أي مقاومة لذاك العدوان وصده، ربما خوفاً من الوضع السائد في قرطبة وخشية على مركزه إن غادرها، فما كان من قائد الشرطة محمد بن أبي عامر إلا أن قاد الجيش بنفسه متوجهاً إلى ديار النصارى إلى قلعة تدعى "الحامة" من حصون "جيليقية"، وحاصرها حتى أخضعها، ثم جال في مناطقها ثلاثة وخمسين يوماً، فغنم  وسبى، في طريق عودته وزع الغنائم على الجنود وعلى الناس، يتقرب بها إلى القلوب، فانتشر أمره وذاع صيته، فأحبه الناس لسخائه وشجاعته.

وعاء حجري من الخزف، قرطبة

* عام 366هـ - 977م غزوة نصارى الشمال:

- وفي نفس العام 366هـ توجه بجيش آخر مشاركاً جيش الدولة بقيادة غالب بن عبد الرحمن (الوصي الثالث) من مدينة "مجريط" (مدريد عاصمة إسبانية الحالية)، وغزوا معاً النصارى في شمال الأندلس، فانتصرا نصراً مؤزراً وعادا، وأصبح ابن أبي عامر حديث الساعة وعلا نجمه، وذاع صيته، فأصدر الخليفة المؤيد بالله أمراً يعين بموجبه ابن أبي عامر قائداً للجيش إضافة إلى قيادة الشرطة، إلا جيش الشمال فقد بقي بقيادة غالب بن عبد الرحمن، ومركزه مدينة سالم.

مصباح زيتي في قصر ابن أبي عامر

* زواج سياسي:

- أراد محمد بن أبي عامر أن يقوي مركزه، فأرسل يخطب أسماء ابنة غالب، وكان قد سبقه الوزير المصحفي إلى خطبتها، فزوجها أبوها من ابن عامر وكان عرساً مشهوداً في الأندلس.

أسماء ابنة غالب تزف لأبن أبي عامر على هودج بعرس مهيب

* عام 367هـ - 978م الحاكم العام للعاصمة:

- وغزا مع عمه بلاد النصارى عام 367هـ، وسيطرا على مجموعة من الحصون التي كانت في قبضتهم، وبخاصة حصن "شلمنقة"، وجالا معاً في بلاد القوط أربعة وثلاثين يوماً، وبعد عودته أصدر الخليفة المؤيد بالله أمراً جعل ابن العامري الحاكم العام للعاصمة قرطبة، كما أصدر أمراً بتأثير من والدته "صبح" عين القائد غالب بن عبد الرحمن "أبا زوجة ابن أبي عامر" وزيراً مشاركاً للوزير جعفر المصحفي.

صندوق خاص للمصاحف عليه نقش اسم الخليفة هشام الثاني تم اكتشافه عام 1853م

* عام 367هـ - 978م إقالة الوزير المصحفي:

- ثم أصدر ابن أبي عامر أمراً بإقالة الوزير في العام نفسه، وسجنه قالوا لتلاعبه أو خيانته بيت المال – والله أعلم- ثم تجاوزت هذه الملاحقة لإنزال العقاب بأولاده وأهله وأصحابه، فطولبوا بالأموال، وأخذوا بالحساب الشديد، واستمرت النكبة عليهم وكأنها نكبة البرامكة في الدولة العباسية، ومن طريف ما يذكر أن المصحفي  أرسل أبياتاً إلى ابن عامر من السجن يستعطفه:

هبني أسأتُ فأين العفو والكرمُ؟           إذ قادني نحوك الإذعان والندمُ

يا خير من مُدت الأيدي إليه أما           ترثي لشيخ رماه عندك القلمُ

بالغت في السُخط فاصفحْ صفحَ مقتدر          إن الملوك إذا ما استرُحموا رَحموا

- فردّ عليه محمد بن أبي عامر ردّاً قاسياً وكتب إليه:

الآن يا جاهلاً زلتَ به القدم       تبغي التكرم لمّا فاتك الكرمُ

أغريتَ بي ملكاً لولا تثبتُه            ما جاز لي عنده نطق ولا كلمُ

فايأس من العيش إذ قد صرت في طبق           إن الملوك إذا ما استنُقموا نقموا

نفسي إذا سخطت ليست براضيه         ولو تشفعّ العرّب والعجمُ

* عام 367هـ - 978م العامري وزيراً وحاجباً:

- ثم أصدر الخليفة هشام المؤيد بالله أمراً عينّ بموجبه العامري وزيراً بدلاً من المصحفي، فتنازل العامري عن قيادة الجيش لأحد أتباعه: جعفر بن علي بن حمدون الملقب بالأندلسي.

- ووصل آخر الأمر أو نهاية المطاف للاستيلاء على مراكز القوى في الدولة الأموية أن أصدر الخليفة قراراً جعل ابن أبي عامر حاجبه الخاص، وهذا يعني أنه أصبح بمثابة وزير دولة، أو مدير الديوان الأميري في عصرنا، فيدير شؤون الخليفة منه وإليه، وكان يتقرب إلى العلماء والفقهاء، وقد اشتكوا له مرة انتشار كتب الفلسفة البيزنطية والفرنجية إذ ترجمت إلى العربية تحمل مبادئ تسيء إلى العقيدة الإسلامية، وتتضمن كلمات ذات مدلول إلحادي، فأصدرت الحاجب المنصور المعروف بحزمه، (حيث كان لا يدع الأمور تفلت من قبضته) أمراً بحرق كل الكتب التي فيها أية إشارة أو غمز أو لمز بأحكام الشريعة.

- وبدأ يقرب إليه البربر المسلمين، يستبدل بهم العرب الأمويين، وكثر أولئك في مراتب الدولة.

جنود الحاجب المنصور

* عام 368هـ - 979م بناء مدينة الزاهرة:

- أنشأ الحاجب مدينة الزاهرة شمال شرق قرطبة وابتدأ في إنشائها عام 368هـ على الوادي الكبير، وتم بناؤها بسرعة إذ انتهى البناء في عامين فقط، وجعلها مقراً له ولأنصاره، فنقل إليها الأموال والأسلحة من الزهراء، وأقام فيها القصور ينافس بها الزهراء، ونقل الدواوين إليها وجعلها مركزاً لإدارة الدولة، ومن ثم توسعت الزاهرة حتى وصلت حدود العمران إلى قرطبة.

إبريق منقوش ومزخرف من النحاس

منطقة أثرية تعود لابن حفصون - في مدينة الزاهرة

ثلاثة معازق حديد

* عام 368هـ - 979م الحاجب يستأثر بالحكم:

- وفي نهاية العام 368هـ أصدر الحاجب بياناً يمنع فيه دخول أحد على الخليفة إلا بأمره، ومن ثمّ لا يخرج الخليفة من القصر إلا بإذنه، إذ عين حراساً حول الخليفة بحجة حمايته، لذلك وصل إلى حراساً المتفرد الوحيد، وصكت النقود باسمه وباسم الخليفة.

- قام بسلسة من الأحداث والتصرفات جعل الخليفة بموجبها اسماً لا حكم له وتقلد هو الحكم الفعلي وإن لم يعلن ذلك، فقد سيطر على الأندلس، وفاق بمجده مجد عبد الرحمن الناصر على رأي بعض الأندلسيين.

- تتجلى شهوة الحكم في كل نفس لا يحدها حدّ، ولا يجؤها إلا الخوف من مبدأ المحاسبة عقيدة أو نظاماً ، أو حذرٌ من شهوة أقوى هيبة منها.

درهم خليفة قرطبة، محمد الثاني

- وقد تؤدي إلى الاستبداد والتفرد، أو تصبح المهيمنة الوحيدة على الذين يديرون الحكم ظاهراً.

- فيزداد أوار الشهوة، ويلهب سعارها إذا كان الحاكم صغيراً تحت وصاية، أو ضعيفاً هزيلاً في الشخصية والمعرفة.

- وتستأثر البطانة -القوي منها- على شؤون الحكم والإدارة ولا بد هنا من أن تسفك الدماء، وتكثر الاغتيالات السياسية، كما فعل الحاجب حين حمل أم هشام بدهائه وقوة عزمه على أن تخلق هي بذاتها الأعذار لحجب ابنها، حتى غدا الصغير هشام شبه معتقل أو سجين.

مكبح حصان من الحديد المصنوع والمزخرف

دينار خليفة قرطبة: هشام الثاني