* في بيتٍ تتضوَّعُ طيوبُ الإيمان ( تنتشر طيوب الإيمان ) في كلّ ركنٍ من أركانِه...
وتلوح صورُ التضحيةِ والفداء على جبينِ كلِّ ساكنٍ من سكانه...
نشأ حبيبُ بن زيدٍ الأنصاريّ ودرجَ.
* * *
- فأبوه هو زيدُ بن عاصمٍ طليعة المسلمين في يثرب، وأحدُ السبعين الذين شهدوا العقبة ( موضع في منى بايع فيه المسلمون الأولون من الأنصار النبي عليه الصلاة والسلام ) وشدّوا على يدي رسول الله مُبايعين، ومعه زوجته وولداه.
وأمُّه هي أمُّ عمارة نسيبة المازِنية أولُ امرأةٍ حملت السلاحَ دفاعاً عن دينِ الله، وذياداً عن محمدٍ رسول الله.
وأخوه هو عبدُ الله بن زيدٍ الذي جعلَ نحره دونَ نحر النبي ( النحر: أعلى الصدر، وجعل نحره دون نحر النبي: أي جعل نفسه فداء له ) وصَدره دون صدرِه يوم أحُدٍ...
* * *
- حتى قال فيهم الرسولُ صلوات الله وسلامه عليه: ( باركَ الله عليكم من أهلِ بيتٍ... رحمكمُ الله من أهل بيت ).
نفذ النورُ الإلهيُّ ( أي الإيمان ) إلى قلب حبيبِ بن زيدٍ وهو غضٌّ طريٌ، فاستقرَّ وتمكن منه.
وكُتبَ له أن يمضيَ مع أمه وأبيه وخالته وأخيه إلى مَكة ليُسهم مع النفرِ السبعين من الغرِّ ( جمع أغر وهو الكريم الأفعال ) الميامين في صنع تاريخِ الإسلام؛ حيث مدَّ يدهُ الصغيرة وبايعَ رسولَ الله تحت جُنح الظلام بيعة العقبة.
ومنذ ذلك اليوم غدا رسولُ الله صلوات الله وسلامُه عليه أحبَّ إليه من أمِّه وأبيه....
وأصبحَ الإسلامُ أغلى عنده من نفسه التي بين جنبيه...
* * *
- لم يَشهد حبيبُ بن زيدٍ بدراً، لأنه كان يومئذ صغيراً جداً.
ولم يُكتب له شرفُ الإسهام في أحدٍ، لأنه كان ما يزالُ دون حملِ السلاح...
لكنه شهدَ بعد ذلك المشاهدَ كلها مع رسول الله، فكان له في كل منها راية عزّ... وصحيفة مجد... وموقفُ فداء...
غير أنَّ هذه المشاهدَ على عظمتها وروعتها لم تكن في حقيقتها سِوى إعدادٍ ضخمٍ للموقف الكبير الذي سنسوق لك حديثه، والذي سيهُزّ ضميرك في عُنفٍ كما هز ضمائرَ ملايين المسلمين مُنذ عصر النبوةِ وإلى يومنا الذي نحن فيه.
والذي ستروعُك قصته كما راعتهُم على مرِّ العصور.
فتعال نستمِع إلى هذه القِصة العنيفة من بدايتها.
* * *
- في السنة التاسعة للهجرةِ كان الإسلامُ قد صلبَ عودُه ( قوي واشتد )، وقويتْ شوكتهُ ورسختْ دعائِمه، فطفِقت وفودُ العرب تشدُّ الرحالَ من أنحاءِ الجزيرة إلى يثربَ للقاءِ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وإعلانِ إسلامِها بين يَديه، ومبايعتهِ على السّمع والطاعة.
وكان في جُملة هذه الوفودِ وفدُ بني حنيفة القادمُ من أعالي نجدٍ.
* * *
- أناخَ الوفدُ جماله في حواشي ( أطراف ) مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلّفَ على رحاله ( ترك عند متاعه ) رجلاً منه يدعى مُسيلمة بن حبيبِ الحنفي، ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلنَ إسلامه وإسلام قومه بين يديه؛ فأكرم الرسولُ صلوات الله وسلامه عليه وَفادتهُم ( أكرم قدومهم عليه وأحسن ضيافتهم )، وأمر لكلٍ منهم بعطيةٍ وأمر لصاحبهم الذي خلفوه في رحالهم بمثلِ ما أمر لهم به.
* * *
- لم يكد يبلغُ الوفدُ منازله في نجدٍ حتى ارتدَّ مُسيلمة بن حبيبٍ عن الإسلام، وقام في الناسِ يُعلن لهم: أنه نبيٌ مرسلٌ أرسله الله إلى بني حنيفة كما أرسل محمد بن عبد الله إلى قريش....
فطفقَ قومُه يلتفون حوله مدفوعين إلى ذلك بِدوافعَ شتى كان أهمّها العصبِية ( شدة ارتباط المرء بعصبيته وانحيازه لها )؛ حتى إن رجلاً من رجالاتهم قال: أشهدُ أن محمداً لصادقٌ وأنّ مسيلمة لكذابٌ؛ ولكنّ كذاب ربيعة ( قبيلة كبيرة من قبائل العرب ينتمي إليها مسيلمة ) أحبُّ إلي من صادقِ مُضر( قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
* * *
- ولما قويَ ساعدُ مُسيلمة وغلظ أمره ( اشتد أمره وكثر أتباعه ) كتبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً جاء فيه: من مُسيلمة رسول الله إلى محمدٍ رسول الله، سلامٌ عليك.
أما بعد فإني قد أشرِكتُ في الأمرِ معك، وإن لنا نصفَ الأرضِ ولقريشٍ نصف الأرض، ولكن قريشاً قومٌ يعتدون.
وبعثَ الكتاب مع رجُلين من رجاله فلما قرئ الكتابُ للنبيِّ عليه الصلاة والسلام قال للرجلين: ( وما تقولان أنتما؟! ).
فأجابا: نقولُ كما قال.
فقال لهما: ( أمَا والله لولا أنَّ الرسلَ لا تقتلُ لضربتُ عنقيكما )، ثم كتب إلى مُسيلمة رسالةً جاء فيها: ( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ رسول الله إلى مسيلمة الكذابِ. السلامُ على من اتبع الهُدى، أما بعدُ فإنَّ الأرض لله يُورثها من يشاء من عبادِه والعاقبة للمُتقين ).
وبعث الرسالة مع الرجلين.
* * *
- ازدادَ شرُّ مسيلمة الكذاب واستشرى فساده ( انتشروا وازداد )، فرأى الرسول صلوات الله عليه أن يبعثَ إليه برسالةٍ يزجُره فيها عن غيِّة ( ينهاه عن ضلالة ) وندبَ لحمل الرسالة بطل قصتنا حبيبَ بن زيد.
وكان يومئذٍ شاباً ناضر الشبابِ مُكتمل الفتاء ( الفتوة ) مُؤمناً من قمة رأسه إلى أخمصِ قدميه.
* * *
- مضى حبيبُ بن زيدٍ إلى ما أمرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم غير وانٍ ( غير فاتر ولا ضعيف ) ولا متريِّثٍ ( متمهل ) ترفعهُ النجادُ ( جمع نجد، وهو المكان المرتفع ) وتحطه الوهادُ ( جمع وهد وهو المكان المنخفض ) حتى بلغ ديارَ بني حنيفة في أعالي نجدٍ، ودفع الرسالة إلى مسيلمة.
فما كاد مسيلمة يقفُ على ما جاء فيها حتى انتفخَ صدرُه ضغينة وحقداً، وبدا الشرُّ والغدرُ على قسمات وجهه ( ملامحه ) الدميم الأصفر، وأمر بحبيب بن زيدٍ أن يُقيدَ، وأن يؤتى به إليه ضُحى اليوم التالي.
فلما كانَ الغدُ تصدر مُسيلمة مجلسهُ، وجعل عن يمينه وعن شماله الطواغيتَ ( جمع طاغوت، وهو رأس الضلال والمعبود من دون الله ) من كبارِ أتباعه، وأذنَ للعامة بالدخولَ عليه، ثم أمر بحبيب بن زيدٍ فجيء به إليه وهو يرسفُ في قيوده ( يمشي بها ببطء لثقلها ).
* * *
- وقف حبيبُ بن زيدٍ وسط هذه الجموعِ الحاشدة الحاقدة مشدودَ القامة، مرفوعَ الهامةِ، شامخَ الأنف، وانتصبَ بينها كرُمحٍ سمهريٍّ ( الرمح الصلب ) أحكمَ المثقفون ( مقوموها ومعدلوها ) تقويمه.
فالتفت إليه مسيلمة وقال: أتشهدُ أن محمداً رسول الله؟
فقال: نعم أشهدُ أن محمداً رسول الله.
فتميزَ مسيلمة غيظا ً( تقطع بسبب الغيظ ) وقال: وتشهدُ أني رسول الله؟
فقال حبيب في سُخريةٍ لاذعةٍ: إن في أذنيَّ صمماَ عن سماع ما تقول.
فامتقع وجهُ مسيلمة ( تغير لون وجهه ) وارتجفَت شفتاه حنقاً ( غيظاً ) وقال لجلاده: اقطع قطعة من جسده.
فأهوى الجلادُ على حبيبٍ بسيفه وبتر قطعة من جسده فتدحرجت على الأرض...
ثم أعاد مسيلمة عليه السؤال نفسه: أتشهدُ أن محمداً رسول الله.؟
قال: نعم أشهدُ أن محمداً رسول الله.
قال: وتشهدُ أني رسول الله؟
قال: قلت لك: إنَّ في أذنيَّ صمماً عن سماعِ ما تقول.
فأمر بأن تقطعَ من جسده قطعة أخرى فقطعت وتدحرجتْ على الأرض حتى استوت ( استقرت ) إلى جانب أختها، والناسُ شاخصون بأبصارهم إليه ( رافعون أبصارهم إليه ) مذهولون من تَصميمِه وعنادِه.
ومضى مسيلمة يسألُ، والجلادُ يقطعُ، وحبيبٌ يقول: أشهدُ أن محمداً رسول الله.
حتى صار نحوٌ من نصفه بضعاً ( جمع بضعة، وهي القطعة ) مُقطعة منثورة على الأرض... ونصفه الأخر كتلة تتكلم...
ثم فاضت روحُه، وعلى شفتيه الطاهرتينِ اسمُ النبي الذي بايعهُ ليلة العقبة...
اسمُ محمدٍ رسول الله...
* * *
- نعى الناعي حبيبَ بن زيدٍ إلى أمه نسيبة المازنية فما زادتْ على أن قالت: من أجل مثلِ هذا الموقف أعددته... وعند الله احتسبته... لقد بايعَ الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ( ليلة بيعة العقبة ) صغيراً... ووفى له اليومَ كبيراً... ولئن أمكنني الله من مُسيلمة لأجعلن بناته يلطِمن الخدود عليه...
* * *
- لم يبطء اليومُ الذي تمنته نسيبة كثيراً...
حيث أذن مؤذنُ أبي بكر في المدينةِ أن حيَّ على قتال المتنبئ الكذابِ مُسيلمة...
فمضى المسلمون يَحثون الخطى إلى لقائِه، وكان في الجيشِ نسيبة المازنية وولدُها عبد الله بنُ زيد.
وفي يومِ اليمامة الأغرِّ شوهدت نسيبة تشقُ الصفوفَ كاللبؤة ( أنثى الأسد ) الثائرةِ وهي تنادي: أين عدوُّ الله ؟ دُلوني على عدوِّ الله...
فلما انتهت إليه وجدته مُجدلا على الأرضِ ( ملقى على الأرض ) وسيوفُ المسلمينَ تنهلُ من دمائه؛ فطابت نفساً...
وقرَّت عينا...
ولم لا؟!
ألم ينتقم اللهُ عزَ وجلَ لفتاها البرِّ التقي من قاتله الباغي الشقي؟!
بلى ...
لقد مضى كلٌ منهما إلى ربه ولكن...
فريقٌ في الجنة....
وفريقٌ في السَّعير...