بتعليقات
الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
* شرح الحديث الثامن والعشرون:
- قوله: ( وعظنا ) الوعظ: هو التذكير المقرون بالترغيب أو الترهيب , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة ولا يكثر عليهم مخافة السآمة , قوله: ( وجلت منها القلوب ) أي خافت , ( وذرفت منها العيون ) أي بكت حتى ذرفت دموعها , ( فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودعٍ فأوصنا ) لأن موعظة المودع تكون موعظة بالغة قوية , ( فأوصنا قال: أوصيكم بتقوى الله ) وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم أنهم استغلوا هذه الفرصة ليوصيهم النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه خير.
- قال: ( أوصيكم بتقوى الله ) وتقوى الله اتخاذ وقاية من عقابه بفعل أوامره واجتناب نواهيه وهذا حق الله عز وجل , ( والسمع والطاعة ) يعني لولاة الأمور أي اسمعوا ما يقولون وما به يأمرون واجتنبوا ما عنه ينهون , ( وإن تأمر عليكم عبد ) يعني وإن كان الأمير عبداً فأسمعوا له وأطيعوه , وهذا هو مقتضى عموم الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) النساء59.
- قوله: ( وأنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ) أي من تطول حياته فسيرى اختلافاً كثيراً ووقع ذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقد حصل الاختلاف الكثير في زمن الصحابة رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه وسلم بأن نلتزم بسنته أي بطريقته وطريقة الخلفاء الراشدين المهدين والخلفاء الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته علماً وعبادة ودعوة وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
- ( المهديين ) وصف كاشف , لأن كل رشاد فهو مهدي ومعنى المهدين الذين هدوا أي هداهم الله عز وجل لطريق الحق.
- ( عضوا عليها بالنواجذ ) وهي أقصى الأضراس وهو كناية عن شدة التمسك بها.
- ثم حذر النبي صلى الله عليه وسلم من محدثات الأمور فقال: ( وإياكم ومحدثات الأمور ) أي أحذركم من محدثات الأمور وهي ما أحدث في الدين بلا دليل شرعي وذلك لأنه لما أمر بلزوم السنة والحذر من البدعة وقال: ( فإن كل بدعة ضلالة ) رواه أبوداود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
* وفي الحديث فوائد منها:
- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على موعظة أصحابه , حيث يأتي بالمواعظ المؤثرة التي توجل لها القلوب وتذرف منها الأعين.
- أن الإنسان المودع الذي يريد أن يغادر إخوانه ينبغي له أن يعظهم موعظة تكون ذكرى لهم , موعظة مؤثرة بليغة , لأن المواعظ عند الوداع لا تنسى.
- الوصية بتقوى الله عز وجل , فهذه الوصية هي وصية الله في الأولين والآخرين لقوله تعالى: ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) النساء131.
- الوصية بالسمع والطاعة لولاة الأمور وقد أمر الله بذلك في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) النساء59.
- وهذا الأمر مشروط بأن لا يؤمر بمعصية الله , فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة في معصية الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الطاعة في المعروف ) ومن هنا نتبين الفائدة في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) النساء59. حيث لم يعد الفعل عند ذكر طاعة أولياء الأمور بل جعلها تابعة لطاعة الله ورسوله.
- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على موعظة أصحابه كما أنه حريص على أن يعظهم أحياناً بتبليغهم الشرع , فهو أيضاً يعظهم مواعظ ترقق القلوب وتؤثر فيها.
- أن ينبغي للواعظ أن يأتي بموعظة مؤثرة في الأسلوب وكيفية الإلقاء ولكن بشرط ألا يأتي بأحاديث ضعيفة أو موضوعة , لأن بعض الوعاظ يأتي بالأحاديث الضعيفة والموضوعة يزعم بأنها تفيد تحيرك القلوب , ولكنها وإن أفادت في هذا تضر , فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين ).
- أن العادة إذا أراد شخص أن يفارق أصحابه وإخوانه فإنه يعظهم موعظة بليغة , لقوله: ( كأنها موعظة مودعٍ ).
- طلب الوصية من أصحاب العلم.
- أن لا وصية أفضل ولا أكمل من الوصية بتقوى الله عز وجل , قال تعالى: ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) النساء131 , وقد سبق شرحها , وقد سبق شرحها.
- الوصية بالسمع والطاعة لولاة الأمور وإن كانوا عبيداً لقوله صلى الله عليه وسلم: ( والسمع والطاعة وإن تأمر عليك عبدٌ ) لأن السمع والطاعة لهم تنتفي به شرور كثيرة وفوضى عظيمة.
- ظهور آية من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ) والذين عاشوا من الصحابة رأوا اختلافاً كثيراً كما يعلم ذلك من التاريخ.
- لزوم التمسك بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام لا سيما عند الاختلاف والتفرق ولهذا قال: ( فعليكم بسنتي ).
- أنه ينبغي التسمك الشديد حتى يعض عليها بالنواجذ , لئلا تفلت من الإنسان.
- التحذير من محدثات الأمور , والمراد بها المحدثات في الدين , وأما ما يحدث في الدنيا فينظر فيه إذا كان فيه مصلحة فلا تحذير منه , أما ما يحصل في الدين فإنه يجب الحذر منه لما فيه التفرق في دين الله , والتشتت وتضيع الأمة بعضها بعضاً.
- أن كل بدعة ضلالة , وأنه ليس في البدع ما هو مستحسن كما زعمه بعض العلماء , بل كل البدع ضلالة فمن ظن أن البدعة حسنة فإنها لا تخلو من أحد أمرين: إما أنها ليست بدعة وظنها الناس بدعة , وإما أنها ليست حسنة وظن هو أنها حسنة , وأما أن تكون بدعة وحسنة فهذا مستحيل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن كل بدعة ضلالة ).