* الحمد لله المُتعَالى عن الأنداد، المقَدَّس عن النَّقائص والأضداد، المُتنزِّهِ عن الصاحِبةِ والأوْلاد، رافع السَّبع الشِّداد، عاليةً بغير عِماد، وواضِع الأرضِ للمهاد، مثَبتةً بالراسياتِ الأطْواد، المطَّلِع على سِرِّ القُلُوب ومكنونِ الفُؤاد، مقدِّرِ ما كان وما يكونُ من الضَّلال والرَشاد، في بحار لُطفِه تجري مراكب العباد، وفي ميدان حبِّه تجول خيلُ الزُّهَّاد، وعنده مبتغى الطالبين ومنتهى القصاد، وبِعينِه ما يتحمَّل المُتَحَمِّلون من أجله في الاجتهاد، يرى دبيب النمل الأسود في السَّواد، ويعلَمُ ما توَسْوسُ به النفسُ في باطِن الاعتقاد، جادَ على السائلين فزادَهُم من الزَّاد، وأعطى الكثير من العاملين المخلصين في المراد، أحمَدُه حمداً يفوقُ على الأعْداد، وأشْكره على نِعَمه وكلَّما شُكِر زَاد، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له له الملكُ الرَّحيم بالعباد، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسولهُ المبعوث إلى جميعِ الخلْق في كلِّ البلاد، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ الَّذِي بذَل منْ نفْسِه ومالِهِ وجاد، وعلى عُمَر الَّذِي بالَغَ في نصْرِ الإِسلام وأجاد، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ جيشَ العُسْرةِ فيا فخره يوم يقوم الأشهاد، وعلى علٍّي المعروفِ بالشجاعةِ والجلاد، وعلى جميع الآلِ والأصْحابِ والتابعينَ لهم بإحَسانٍ إلى يوم التَّنَاد، وسلِّم تسليماً.
* إخواني: قدَّمنا الكلامَ عن خْمسَةِ أقسامٍ من الناس في أحْكامِ الصيام. ونتكلَّمُ في هذا المجلِس عن طائفةٍ أخرى من تلك الأقسامِ:
- فالقسمُ السادسُ:
- المسافرُ إذا لم يقْصُدْ بسَفَرِه التَّحيُّلَ على الفِطْرِ، فإن قَصَد ذَلِكَ فالفطرُ عليه حرامٌ والصيامُ واجبٌ عليه حْينئذٍ. فإذا لَمْ يقصد التَّحيُّلَ فهو مخيَّرٌ بين الصيام والفطر سواءٌ طالتْ مدةُ سفره أمْ قصُرتْ، وسواءٌ كان سفرُه طارِئاً لغَرض أمْ مُسْتَمِّراً، كسَائِقي الطائراتِ وسياراتِ الأجْرةِ لعموم قوله تعالى: { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185]. وفي الصحيحين عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: كُنَّا نُسَافر مع النبي صلى الله عليه وسلّم فَلَمْ يَعِب الصائمُ على المُفطِر ولا المفْطِرُ على الصائمِ. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: يَرْونَ أنَّ مَنْ وجَدَ قُوَّة فصَام فإنَّ ذلك حَسَنٌ، ويرونَ أنَّ منْ وجَدَ ضعْفاً فأفْطرَ فإنَّ ذلك حَسَنٌ. وفي سنن أبي داودَ عن حمزةَ ابن عمْرو الأسلَميِّ أنَّه قال: يا رسولَ الله إني صاحبُ ظهرٍ أعالجه أسافِرُ عليه وأكريه وإنَّه ربَّما صادفني هذا الشهرُ ـ يعنِي رمضانَ ـ وأنا أجدُ الْقوَّة وأنا شَابٌ فأجد بأنَّ الصَّومَ يا رسولَ الله أهونُ عليَّ منْ أن أؤخِّرهُ فيكون ديناً عليَّ أفأصُومُ يا رسولَ الله أعظمُ لأجري أمْ أفطرُ قال: «أيَّ ذلك شئتَ يا حمزةُ».
- فإذا كان صاحبُ سيارةِ الأجرةِ يشقُّ عليه الصومُ في رمضانَ في السَّفرِ من أجل الحرِّ مثلاً فإنه يؤخره إلى وقت يبرد فيه الجو ويتيسَّر فيه الصيام عليه. والأفضل للمسافر فعلُ الأسهلِ عليه من الصيام والْفِطرِ، فإنْ تساويَا فالصَّومُ أفضلُ لأنَه أسْرعُ في إبراء ذمته وأنشط له إذا صامَ معَ الناسِ، لأنه فعلُ النبي صلى الله عليه وسلّم كما في صحيح مسلمٍ عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قال: خَرَجنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم في رمضانَ في حرٍّ شديدٍ، حتى إنْ كان أحَدُنا ليضع يَدَه على رأسِهِ من شدةِ الحرِّ، وما فينا صائمٌ إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعبدُالله بنُ رواحة. وأفْطرَ صلى الله عليه وسلّم مراعاةً لأصحابِه حينَ بلغه أنَّهمْ شَقَّ عليهِم الصيام، فعن جابرٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم خرج إلى مكةَ عامَ الفتحِ فصامَ حتى بَلَغ كُرَاعَ الْغميمَ، فصامَ الناسُ معه فقيل له: إنَّ الناسَ قد شقَّ عليهم الصيامُ، وإنَّهم ينظُرونَ فيما فَعْلت، فَدعَا بقَدَحٍ مِن ماءٍ بعد العصر فشَربَ والناسُ ينظرون إليه، رواه مسلم. وفي حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أتَى على نهرٍ من السَّماءِ والناسُ صيامٌ في يوم صائفٍ مُشاةً، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّم على بغلةٍ له، فقال: « أشْربُوا أيها الناسُ » فأبَوْا، فقال: « إنِّي لسْتُ مثلكُمْ، إنِّي أيْسرُكمْ، إني راكب »، فأبَوْا، فَثَنَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فخِذَه فنزلَ فشرب وشربَ الناسُ، وما كانَ يُرِيدُ أن يشربَ صلى الله عليه وسلّم»، رواه أحمد.
- وإذا كان المسافرُ يَشُقُّ عليه الصومُ فإنَّه يفطرُ ولا يصُومُ في السفرِ، ففي حديثِ جابرٍ السابق أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لمَّا أفْطرَ حينَ شَقَّ الصومُ على الناس قيل له: إنَّ بعض الناسِ قد صَامَ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: « أولَئِك العُصاةُ، أولئك العصاة »، رواه مسلم.
وفي الصحيحين، عن جابرٍ أيضاً أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان في سفرٍ، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: « ما هذا؟ » قالوا: صائمٌ، فقال: « ليس من البرِّ الصيامُ في السفر ». وإذا سافر الصائمُ في أثناء اليوم وشقَّ عليه إكْمالُ صومِهِ جاز له الفطرُ إذا خَرجَ من بلدِه، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم صام وصامَ الناسُ معه حتى بلغ كُراعَ الْغميمِ، فلما بلغه أن الناس قد شَقَّ عليهم الصيام أفطر وأفطر الناس معه، وكراعُ الغميمِ جبلٌ أسودُ في طرفِ الحَرَّةِ يمتدُّ إلى الوادي المُسَمَّى بالْغَمِيمِ بين عُسفَانَ وَمَرِّ الظَّهرانِ.
- وإذا قدِم المسافرُ إلى بلدِه في نهارِ رمضانَ مفطِراً لم يصحَّ صومُه ذلكَ اليومَ، لأنه كان مُفْطِراً في أوَّل النهار. والصومُ الواجبُ لا يصح إلاَّ مِنْ طلُوعِ الفجر، ولكن هل يلزمه الإِمساكُ بقيةَ اليوم؟ اختلفَ العلماءُ في ذلك فَقَال بعْضهُم: يجب عليه أنْ يُمسِكَ بقيةَ اليومِ احتراماً للزمنِ، ويجب عليه الْقَضَاءُ أيضاً لِعَدَمِ صحةِ صومِ ذلك اليوم، وهذا المشهور من مذهب أحمد رحمه الله، وقال بعض العلماء: لا يجب عليه أن يمسك بقية ذلك اليوم، لأنه لا يستفيدُ من هذا الإِمساكِ شيئاً لوجوب القضاءِ عليه، وحُرْمةُ الزَّمن قد زالتْ بفِطره المباح له أوَّلَ النهارِ ظاهراً وباطناً. قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: من أكل أول النهار فلْيَأْكُلْ آخره، أي: من حلَّ له الأكل أولَ النهار بعُذرٍ حلَّ له الأكلُ آخِره. وهذا مذهَبُ مالِك والشافعيّ ورواية عن الإِمام أحمد، ولكنْ لا يُعْلِنُ أكلَه ولا شربَه لخفاءِ سببِ الفطرِ فيُساء به الظَّنُّ أو يُقْتَدى به.
- القسمُ السَّابعُ :
المِريضُ الَّذِي يُرجَى برؤُ مرضِه وله ثلاثُ حالاتٍ:
إحداها: أنْ لا يشقَّ عليه الصومُ ولا يَضُرُّه، فيجبُ عليه الصومُ لأنه ليس له عُذْرٌ يُبِيح الْفِطْرَ.
الثانيةُ: أنْ يشقَّ عليه الصومُ ولا يضُرُّه، فيفطرُ لقوله تعالى: { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185]. ويُكْره له الصوم مع المشقَّةِ، لأنه خروجٌ عن رُخصةِ الله تعالى وتعْذيبٌ لنفسه، وفي الحديث: « إن الله يُحب أن تُؤتى رُخَصُه كما يكرهُ أن تؤتى معْصِيتُه » رواه أحمد وابنُ حبان وابنُ خُزَيمة في صحيحيهما.
الثالثةُ: أنْ يضُرَّه الصومُ فيجبُ عليه الْفطرُ ولا يجوزُ له الصومُ لقولِه تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء: 29]، وقولِه: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة: 195]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلّم: « إنَّ لِنفْسكَ عليْك حقَّا ً»، رواه البخاري. ومن حقهَا أنْ لا تضرَّها مع وجود رخصةِ الله سبحانه. ولقولِه صلى الله عليه وسلّم: « لا ضَررَ ولا ضرارِ »، أخرجه ابن ماجه والحاكم. قال النَّووي وله طرق يقويِ بعضها بعضاً.
- وإذا حدَث له المرَضُ في أثناءِ رمضانَ وهو صائمٌ وشقَّ عليه إتمامُه جاز له الفطرُ لوجودِ المُبيح للفطر. وإذا برأ في نهارِ رمضانَ وهو مفطر لم يصحَّ أنْ يصومَ ذلك اليَوْمَ لأنَّه كان مُفطِراً في أوَّلِ النهار، والصومُ الواجب لا يصحُّ إلاَّ مِنْ طلوع الفجر ولكِنْ هل يلْزَمه أنْ يُمسِكَ بقية يومِهِ؟ فيه خلافٌ بَيْنَ العلماء سبق ذكْرُه في المسافرِ إذا قدِم مُفطِراً.
- وإذا ثبت بالطِّبِّ أنَّ الصومَ يجلِبُ المرَضَ أو يؤخر بُرءَه جاز له الفطرُ محافظةً على صِحَّتِه واتقاءً للمرض. فإنْ كان يُرْجى زوالُ هذا الْخَطر، انْتظَرَ حتى يزولَ ثم يقضْى ما أفْطر. وإنْ كان لا يُرْجى زوالهُ فحكمه حُكمُ القسمِ الخامِسِ يُفطِرُ ويُطْعِمُ عنْ كلِّ يومٍ مسكيناً.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للعملِ بما يُرضيك، وجنِّبْنا أسبابَ سَخَطِك ومعاصِيْك، واغفر لنا ولوالدينَا ولجميع المسلمينَ برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.
من كتاب مجالس رمضان لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين رحمة الله رحمةً واسعة