* لما اشْتكى ( مرض وتألم ) رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَ عَودتهِ من حجَّةِ الوداعِ، وطارتْ الأخبارُ في أرجاءِ الجزيرةِ بمرضهِ، ارتدَّ عن الإسلام الأسودُ العنسيُّ في اليمنِ، ومُسيلمةُ الكذابُ في اليمامَةِ، وطليحة الأسَديُّ في بلادِ بني أسدَ، وزَعمَ الثلاثة الكذابون أنهم أنبياءُ أرسِلَ كلٌ مِنهمْ إلى قومِه كما أرسِل محمدُ بنُ عبدِ الله إلى قُريشٍ.
* * *
- كان الأسودُ العنسِيُّ كاهناً مشعوذاً ( الذي يستعمل الشعوذة، وهي خفة في اليد وأعمال كالسحر تري الشيء للعين بغير ما هو عليه ) أسودَ النفسِ مُستطيرَ الشرِّ، شديدَ القوةِ، ضخمَ الهيكلِ.
وكان إلى ذلك فصيحاً يَخلبُ الألبابَ ببيانِه، داهيةً قادراً على اللعِبِ بعقولِ العامَّة بأباطيلهِ، وإغراءِ الخاصةِ بالمالِ والجاهِ والمناصب.
وكان لا يظهرُ للناسِ إلا مُقنعاً لإحاطةِ نفسهِ بهالةٍ من الغُموضِ والهيبة.
* * *
- وكان النفوذ في اليمنِ إذ ذاكَ " للأبناءِ "، وعلى رأسِهم فيروزُ الديلميُّ صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و" الأبناءُ " اسمٌ يطلقُ على جماعةٍ من الناسِ آباؤهم من الفُرسِ الذين نزحوا من بِلادهم إلى اليمن، وأمهاتهم من العرب.
وقد كان كبيرُهم " باذانُ " عندَ ظهور الإسلامِ ملكاً على اليمن من قبلِ كسرى عظيمِ الفُرسِ، فلما استبانَ له صدقُ الرسولِ وسموُّ دعوتهِ خلعَ طاعةَ كِسرى ودخلَ هو وقومُه في دين الله، فأقرهُ النبيُّ على مُلكه، وظل فيه إلى أن مات قُبيل ظهورِ الأسود العنسيِّ بزمنٍ يسيرٍ.
* * *
- وكان أولَ من استجابَ لدعوةِ الأسودِ العنسيِّ قومُه بنو مذحجٍ، فوثبَ بهم على صنعَاءَ، وقتَل واليها " شهرَ بنَ باذانَ " وتزوج من امرأته " آذادَ ".
ثم وثبَ من صنعاءَ على المناطقِ الأخرى، فَجعَلتْ تتهاوى تحتَ ضرباته بسرعةٍ مذهلةٍ حتى دانت له البلادُ الواقعة بينَ حضرموتَ إلى الطائفِ، وما بين البحرينِ والأحْساءِ إلى عدن...
* * *
- وكان ممَّا ساعدَ الأسودَ العنسيَّ على خداعِ الناسِ واستِمالتهم إليه دهاؤه الذي لا حُدودَ له، فقد زعمَ لأتباعهِ أنَّ له ملكاً ينزلُ عليه بالوَحيِ وينبِّئه بالمغيباتِ....
وكان يُؤكدُ هذا الزعمَ بعُيونهِ ( الجواسيس ) الذين بَثهم في كل مكانٍ، لِيقفوا على أخبارِ الناسِ، ويَنفُذوا إلى أسرارهم، ويَتعرفوا إلى مُشكلاتِهم ويكشِفُوا عمَّا يَتلجلج في صُدورِهم من الأماني والآمال، ثم يأتوه بها سِراً.
فكان يُواجهُ كلَّ ذي حاجةٍ بحاجتهِ، ويبدأ كل صاحبِ مُشكلةٍ بمشكلتهِ، ويأتي لأتباعهِ من العجائبِ والغرائبِ ما يُذهلُ عُقولهُم ويُحيِّر أفهامَهم.... حتى غلظَ ( اشتد وقوي ) أمرُه، واستطارَت ( ذاعت وعمت وطارت في الآفاق ) دعوَتهُ كما تسيِطرُ النارُ المُستعِرةُ في الهشِيمِ اليابسِ.
* * *
- ما كادَت تبلغُ النبيَّ صلوات الله عليه أنباءُ ردَّةِ الأسودِ العنسيِّ ووثوبهِ على اليمنِ حتى سَيرَّ نحو عشرةٍ من أصحابهِ برسائل إلى من يتوسَّمُ ( يأمل ويتوقع ) فيهم الخير من أصحابِ السابقةِ في اليمن... يَحُضهمْ فيها على مُواجهةِ هذه الفتنةِ العمياءِ بالإيمانِ والحزمِ، ويأمُرهُم بالتّخلصِ من الأسودِ العنسيِّ بأيِّ وسيلة....
فما من أحدٍ بلغتهُ رسالة النبيِّ إلا لبَّى دعوتهَ، وهبَّ لإنفاذِ أمرهِ.
وكان أسبقَ الناسِ استجابةً لندائهِ بطلُ قصتِنا فَيروزُ الديلميُّ ومن معهُ من " الأبناء ".
فلنترُك الكلامَ له ليرويَ لنا قِصتهُ الفذة الرائِعة.
- قال فيروز: لم نشك - أنا ومن معي من " الأبناء " لحظةً في دينِ الله، ولا وقعَ في قلبِ أيّ منا تَصديقٌ لعدوِّ الله.
وكنا نَتحيّنُ الفرصَ للوُثوبِ عليهِ والتخلصِ منهُ بكلِّ سبيل.
فلما وَردتْ علينا وعلى أصحابِ السابقةِ من المؤمنين كُتُبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تقوى بعضُنا ببعضٍ وهبَّ كل مِنا يعملُ في جهتهِ...
* * *
- وكان الأسودُ العَنسيُّ قد داخلهُ الغُرورُ والكِبرُ لما أصابَ من نجاحٍ، فَتاهَ ( تكبر ) على قائدِ جيشهِ قيسِ بنِ عبدِ يَغوثَ وتجبرَ، وتغيرَّ في معاملتهِ له حتى صارَ قيسٌ لا يأمنُ على نفسهِ من بطشهِ.
فمضيتُ إليه وأنا وابنُ عمي " داذوية " وأبلغناهُ رسالةَ النبيِّ عليه الصلاة والسلام، ودعوناهُ لأن يتغدَّى بالرجُل قبلَ أن يتعشى به.
فانشرح لِدعوتنا صدرهُ، وكشفَ لنا عن سِرِّه، ورآنا كأننا هبَطنا عليه من السماء.
فتَعاهدنا نَحنُ الثلاثة على أن نتَصدى لِلمُرتدِّ الكذابِ من الداخلِ بينما يتصدى له إخواننا الآخرون من الخارج.
واستقر رأينا على أن نشرك معنا ابنة عمي "آذار" التي تزوج بها الأسود العنسيّ بعد قتلِ زوجها " شهرِ بنِ باذان ".
* * *
- مَضيتُ إلى قصرِ الأسودِ العنسيّ والتقيتُ بابنةِ عمي " آذاد" وقلت لها: يا بنت العمِّ، لقد عرفتِ ما أنزلهُ هذا الرجلُ بكِ وبنا من الشرِّ والضرِّ....
فلقد قتَل زوجكِ، وفضحَ نساءَ قومكِ، وأهلك كثيراً من رجالِهم، وانتزع الأمرَ ( انتزع الولاية والسلطان ) من أيديهم.
وهذا كتابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلينا خاصةً وإلى أهلِ اليمنِ عامَّة يدعُونا فيه إلى القضَاء على هذِه الفتنةِ.
فهل لك أن تُعينينا عليه؟!
فقالت: أُعِينكم على أيِّ شيءٍ؟.
فقلت: على إخراجه ِ...
فقلت: بَل على قتلهِ...
فقلت: والله ما قصدتُ غير ذلكَ؛ ولكنِّي خشيتُ أن أواجهكِ به.
فقالت: والذي بعثَ محمداً بالحقّ بشيراً ونذيراً ما ارتبتُ في ديني طرفةَ عينٍ، وما خلقَ الله رجلاَ أبغضَ إليَّ من هذا الشيطان...
ووالله ما عَلمتهُ مُنذ رأيتهُ إلا فاجراً، أثيماً، لا يرعَى حقاً ولا ينتهِي عن منكرٍ.
فقلت: وكيف لنا بِقتلهِ؟!.
فقالت: إنه مُتحرزٌ مُتحرّسٌ ( محتاط متيقظ ) لنفسهِ، وليس في القصرِ مكانٌ إلا والحرسُ مُحيطون به غير هذه الحجرةِ النائيةِ المهجورة ِ؛ فإنَّ ظهْرَها إلى مكانِ كذا وكذا على البريَّةِ، فإذا أمسيتُم فانقبُوها في عَتمِة الليلِ، وستجدون في داخِلها السلاحَ والمصباح.
وستجدُونني في انِتظارِكم، ثم ادخُلوا عليه واقتلوه...
فقلت: ولكنَّ نقبَ ( حفر فتحة في الجدار ) حُجرةٍ في مثلِ هذا القصرِ ليسَ بالأمرِ الهينِ...
فقد يمرُّ بنا إنسانٌ فيهتفُ ( ينادي ويصرخ ) ويَستصرخ الحرسَ... فيكونُ ما لا تحمدُ عقباه...
فقالت: ما عَدوتَ الحقَّ ( ما جاوزته ولا ابتعدت عنه ) ولكم عِندي رأيٌ.
قلت: ما هو؟!
قالت: ترسِلُ غداً رجلاً تأتمنهُ على هيئةِ عاملٍ، فآمُرهُ أنا بِنقبِ الحُجرةِ من الداخلِ حتى لا يبقى من النقبِ إلا شيءٌ يسيرٌ. ثم تتمُّونه أنتم في الليلِ من الخارجِ بأيسرِ الجهد.
فقلت: نِعمَ الرأي ما رأيتِ.
ثم انصرفُ وأخبرتُ صاحبيَّ بما اتفقنا عليهِ فبارَكوهُ، ومضينا من ساعتنَا نُعدُّ للأمرِ عُدته.
ثم أفضينا ( أعلمنا وأخبرنا ) إلى خاصَّة المؤمنين من أنصارنا بكلمةِ السرِّ، ودعوناهُم للتأهبِ، وجَعلنا مَوعدنَا معهُم فجرَ اليومِ التالي.
ولما جنَّ ( أظلم وستر الكون ) علينَا الليلُ، وأزِفَ ( حان ) الوقتُ المحدّدُ مَضيتُ مع صاحِبيّ إلى مكانِ النقبِ فكشفنا عنهُ، وولجنًا ( دخلنا ) إلى داخلِ الحُجرة وتناولنا السلاحَ وأضَأنا المصباحَ ومَضينا نحوَ مقصورةِ عدوِّ الله، فإذا ابنةُ عمي واقفة ببابها، فأشارَت إلي فدخلتُ عليه؛ فإذا هو نائمٌ يغط ( ينخر ) في نومهِ.
فأهوَيتُ بالشفرةِ على عُنقهِ؛ فخارَ خوارَ الثورِ( صاح صياح الثور)، واضطربَ اضطراب البعير المذبوحِ.
فلما سمعَ الحَرسُ خُواره؛ أقبلوا على المقصورةِ وقالوا: ما هذا؟!
فقالت لهم ابنةُ عمي: انصرفوا راشِدين، فإنَّ نبي اللهِ يوحى إليه...
فانصرفوا.....
* * *
- بقينَا في القصرِ حتى طلعَ الفجرُ، فَوقفتُ على سورٍ من أسوارهِ وهَتفتُ: الله أكبر، الله أكبر، ومَضيتُ في الأذانِ حتى قلتُ: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأشهدُ أن الأسودَ العنسيّ كذاب....
وكانت هذه كلمةَ السرِّ.
فأقبلَ المُسلمونَ على القصرِ من كل جانبٍ، وهبَّ الحَرسُ مذعورينَ لما سَمعوا الأذان وتلاحمَ الفريقان بعضُهم ببعضٍ.
فألقيتُ إليهم برأسِ الأسودِ من فوقِ أسوارِ القصرِ...
فلما رآهُ أنصارُه وَهَنوا ( ضعفوا ) وذهبت ريحُهم ( زالت قوتهم )، ولما أبصَرهُ المؤمنون كبَّرُوا وكروا على عدوِّهم.... وقضيِ الأمرُ قبل طلوعِ الشمسِ.
* * *
- ولما أسفَرَ النهارُ ( طلع النهار ) بعثنا بِكتابٍ إلى رسولِ الله نُبشره بِمصرع عدو الله، فلما بلغ المُبشرونَ المدينة وجدُوا النبي صلواتُ الله عليه قد فارقَ الحياة لليلتِه ( في تلك الليلة ).
غير أنَّهم ما لبِثوا أن عِلموا أن الوحي بَشرَه بمقتلِ الأسودِ العنسي في الليلةِ التي قتل فيها...
فقال عليه الصلاةُ والسلامُ لأصحابِه: ( قتِلَ الأسودُ العنسي البارحَة... قتله رجلٌ مباركٌ من أهلِ بيتٍ مُباركين...).
فقيلَ له: من هو يا رسولُ الله؟
فقال: ( فَيروز.... فازَ فيْروزُ ).