* من وحى زيارة قامت بها الكاتبة الإنجليزية، فيكتوريا هيسلوب، إلى جزيرة سبينالونجا بكريت، ألفت رواية بعنوان «الجزيرة»، عام 2005، ترجمت إلى أكثر من خمسة وعشرين لغة وقرأها ما يزيد عن ثلاثة ملايين شخص حول العالم.
- هذه الجزيرة التى تعد حاليا ضمن مدن الأشباح فلا يزورها سوى السائحين، كانت مستعمرة للجذام، تستقبل المرضى غير المرغوب فيهم من سائر أنحاء اليونان وكريت.
- وهى عبارة عن قلعة وحصن قديمين وقعا تحت سيطرة البندقية ثم الدولة العثمانية، وعند الاستقلال عام 1903 تحولت بقرار رسمى إلى مستعمرة للجذام حتى سنة 1957، فكانت الأخيرة من نوعها فى أوروبا، بعد أن تم اكتشاف علاج أكثر تطورا للمرض يسمح بتقليص آثاره فى نهاية أربعينيات القرن الماضى.
- تحولت أطلال القلعة إلى مساكن لمرضى الجذام، والجامع إلى مشفى، والحصن إلى قرافة، إذ كان المصاب بهذا الداء يدخل من الباب الأثرى الضخم الذى لا يزال قائما ولا يخرج حتى بعد أن يوارى الثرى، فيعيش ويموت منبوذا ضمن منبوذين.
- لذا كان آخر من غادر الجزيرة هو الكاهن الأرثوذكسى الذى ظل يتلو الصلوات على أرواح الموتى ويحيى ذكراهم حتى العام 1962.
- عكست الرواية، التى جاءت ضمن قوائم الكتب الأكثر مبيعا عند صدورها، رغبة هؤلاء فى الحياة وتشبثهم بها وكيف استطاعوا تنظيم أنفسهم بشكل يتيح لهم حياة طبيعية قدر الإمكان.
- جعلتنا ننغمس فى تفاصيل الصداقات وقصص الحب والغدر التى قد تطرأ على هذا المجتمع المغلق، من خلال سردية الصياد الذى يبحر يوميا بقاربه الصغير كى يوصل كل مستلزمات الحياة اليومية إلى سبينالونجا, ومعناها مستلهم من شكلها على الخريطة «شوكة طويلة» فى عرض البحر.
- ثم يأتيه يوم يضطر فيه إلى اصطحاب زوجته دون رجعة إلى الجزيرة، حين تنتقل إليها العدوى من أحد طلابها، وبعدها بسنوات يصحب ابنته الكبرى، ويتركها أيضا هناك.
- العلاقة بين العالمين كان يفصلها ويحكمها البحر بكل تقلباته، وبكل ما يمثله من معان لها علاقة بالعزلة والوحدة والطرد والنفى والوحشة والبعاد وانتظار المجهول.
- هذه الشحنة المحملة بالرفض تتصارع مع طبيعة المكان، وتذكرنا أيضا بالعديد من الجزر التى اقترنت تاريخيا بالنفى ومرارة السجن أو الإقامة الجبرية، رغم جمالها الذى لا تخطئه عين.
- والنماذج كثيرة: فى اليونان أيضا هناك جزيرة بطمس على بحر إيجة حيث نفى الرومان القديس يوحنا وتراءت له أحداث سفر الرؤيا فى أحد كهوفها، وعلى بعد كيلومترات، فى البحر المتوسط، تم نفى سعد زغلول ورفاقه إلى جزيرة مالطة، فتفجرت ثورة 1919 واضطرت انجلترا إلى عزل الحاكم البريطانى وسمحت للوفد المصرى بالسفر إلى مؤتمر الصلح فى باريس ليعرض قضية الاستقلال. بعدها بثلاث سنوات نفى سعد زغلول مجددا إلى جزيرة أخرى بديعة، وهى سيشيل فى المحيط الهندى.
- شواطئ ومناظر خلابة اقترنت فى أذهاننا، وغيرنا كثر، بالعقاب والسخرة والعبودية والاحتلال، لا أدرى لماذا حكم التاريخ عليها بذلك، لكنها ظلت مرتبطة بظرف معين، بذاكرة مفقودة أو بمحو مخطط له مع سبق الإصرار.
- أحيانا يختار ساسة عصرا ما أو القائمون على شئون العالم وأمن الكوكب محو الآثار والأسرار وإغراقها فى البحر، وتكون الجزر البعيدة إذا هى المكان الأمثل لذلك.
- نابليون مات فى جزيرة سانت هيلينا بالمحيط الأطلنطى، بعد هزيمته فى معركة واترلو. عاش فيها مع 26 من قادته، يقرأ ويزرع ويكتب مذكراته، وكأنه روبنسون كروزو بطل الرواية التى سبقت الهزيمة بنحو عشر سنوات.
- أما نيلسون مانديلا ورفاقه فقد أمضوا سنوات من حياتهم فى جزيرة روبن، قبالة سواحل كيب تاون بجنوب أفريقيا، سجن كبير وملاذ آمن للطيور المهددة بالانقراض يتحول إلى مقصد سياحى عبر الوقت، كما غيرها من جزر المنفى والمعتقلات فى بنما والاكوادور والولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا وغيرها من الدول.
- يظل هناك حائط للمبكى أو بقايا جدار أو مجرد أرواح عالقة بالمكان المدهش تبعث وجود من حاول يوما أن يتذكر أو ينسى.
- ومجرد زيارة مثل هذه الجزر، جزر المنسيين قديما، أو القراءة عنها، يشعرنا بوطأة ما يحدث للمنسيين الجدد، وإن اختلفت الجزر. وتطاردنا رغبة فى البعد الاختيارى والاحتماء بالطبيعة، هربا من الجنون والظلم والعنف والارتجال الذى يجعل حياتنا مجرد تخبيط فى الحلل.
- على الأقل المنبوذون فى جزيرة سبينالونجا نجحوا فى تنظيم صفوفهم وتحصنوا بالقلعة وصنعوا حياة من العدم.