لفلي سمايل

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

تاريخ الإضافة : 27-4-1433 هـ

الباب الثاني: الدولة الأموية في الأندلس

 

الفصل الثالث: عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر

 

ثانياً : القتال والجهاد

 

* أحوال الأندلس:

- أصبح عبد الرحمن أميراً على قرطبة، والبلاد في حالة من الفوضى، فالتمزق الداخلي قد جعل كل مدينة دولُة مستقلة، ومن كل إقليم إمارة منفصلة -كما سبق ذكره- وكانت الحروب الداخلية والفتن المتلاحقة التي استمرت طوال حكم المنذر وأخيه عبد الله قد أرهقت الإمارة الأندلسية، واستنزفت كامل قوتها.

- وكانت الدول النصرانية في الشمال: (ليون أو نافار) -كما ذكر سابقاً- تتابع مسيرتها لبناء قدرتها الذاتية، فأصبحت مملكة ليون من أقوى تلك الدول، وأخذت زعامة دول النصارى في محاربة المسلمين.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

تقويم بالألوان

 

* التوجه لتوحيد الأندلس:

- كانت الأندلس كما ذكرنا يوم تولي عبد الرحمن الناصر الحكم، فكانت مهمته خطيرة وصعبة، وكانت سنة حينذاك اثنتين وعشرين سنة، لذلك بايعه كل أصحاب المكانة، ولم ينافسه أحد لخطورة المهمة التي كانت ستواجه مَن يتولى الحكم في الأندلس في ذلك الحين، لكن عبد الرحمن كان أميراً حازماً، وذكياً عادلاً، وعاقلاً شجاعاً محباً للإصلاح حريصاً عليه، أحبه الشعب وأخلص له، وكان هو قدوةً له، لذلك استطاع أن يقضي على العصاة، ويعيد للأندلس وحدتها وقوتها ومكانتها.

 

* عام 300هـ -913م هزائم ابن حفصون:

- في عام 300هـ أي في العام الذي تولى الناصر الحكم هاجم الثائر ابن حفصون مدينة (رية) وضرب حصاراً حولها، فبدأ عبد الرحمن الثالث عملياته فوراً يقود بنفسه الجيش، وتمكن من رفع الحصار عن المدينة، ثم تابع هجومه على قوات ابن حفصون فانتزع منها عدداً من الحصون المهمة، ثم لم يتوان عن تحرير المدن الموالية لابن حفصون في كورة (إلبيرة) وتطهيرها من أنصاره، وتوجه عبد الرحمن الناصر بعد ذلك إلى وادي آش، فاحتل الحصون والقلاع المنتشرة فيه، وأوغل في تقدمه عبر شعاب جبل الثلج (سيرا نيفادا)، وعاد إلى قرطبة بعد مضي ثلاث أشهر.

- اهتز ابن حفصون من تلك الهزائم التي منيت بها قواته، وأخذت الحصون منه، كيف لشاب صغير أن يفعل به هذه الأفاعيل؟ ويهزمه بهذه الهزائم المرة؟ فتحرك يريد أن يفعل شيئاً فالتقى بجيش عبد الرحمن الذي يقوده بنفسه قرب قرية تدعى (طَرَش)، ووقعت معركة رهيبة قرب قلعتها، قتل فيها عدداً كبيراً من جند ابن حفصون وحلفائه النصارى، وتقدم الناصر مزيداً في هجومه وإعادة المناطق التي كانت بيد هذا الثائر العنيد.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

صندوق مجوهرات ، مصنوع من العاج في مدينة الزهراء

 

- ذهل ابن حفصون مما أصابه من همة هذا الشاب غريمه الناصر، فأرسل يطلب المدد من العبيديين (الفاطميين) على عجل، إلا أن الناصر كان يقظاً فتوجه مباشرة نحو "شذونة" ومنها إلى "قَرمونة" اللتين كانتا تحت قبضة المتمرد ابن حفصون، وحاصرهما فاستسلمتا له، كذلك تمكنت سفنه أن تستولي على مجموعة من السفن المحملة بالمؤن والإمداد التي أرسلها العبيديون (الفاطميون)، (وهي طائفة من الإسماعيلية المنحرفة) لدعم ابن حفصون عن طريق البحر في المضيق، فأمر الناصر بحرقها.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

رأس العمود في قرطبة، وحفر على الرأس عازف للموسيقى

 

* عام 301هـ 914م السيطرة على إشبيلية:

- ومن حوادث سنة 301هـ موت عبد الرحمن بن إبراهيم بن حجاج، فتولى إمارة المنفصلين في إشبيلية ابنه محمد بن عبد الرحمن، لكنه ما إن جلس حتى ثار عليه من أسرته أحمد بن سلمة من بني حجاج، وهكذا يطمع الطامعون في الحكم على أقاربهم، وأدرك هذا الأخير أنْ ليس بإمكانه مقاومة عبد الرحمن بن إبراهيم فأرسل إلى الناصر يطلب منه المساعدة والمعاونة وأنه يعطيه الولاء إذا أنهى حكم عبد الرحمن بن حجاج، فلبّى الناصر هذا النداء، وأرسل قوة استطاعت أن تقضي على تمرد بني حجاج، ويصدق ابن سلمة إذ يعلن ولاءه للأمويين الذين أعادوا سلطتهم على إشبيلية.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

جنود الناصر يهبون لنجدة أمير إشبيلية محمد بن عبد الرحمن

 

- بدأ نجم الناصر يلمع فيضيء في سماء الأندلس، كيف استطاع هذا الشاب أن يعيد إشبيلية؟ وكذلك معظم المناطق التي كانت تحت قبضة ابن حفصون بأقل من سنة؟

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

قرطبة، باب إشبيلية، الطريق القديمة المؤدية إلى إشبيلية

 

* عام 301هـ 914م سرقسطة تخضع:

- انتشرت  أخبار الانتصارات التي مكنت الناصر في أرجاء الإمارة ولما سمع بها ابنُ قسيّ المتمرد بمدينة "سرقسطة" لم يتمهلْ بل بادر فوراً فأرسل إلى الناصر يعلن له الخضوع، وأنه يدخل فيما دخل فيه الأمويون، فأقره الناصر، وكان من خلقه أن يغدق على العصاة الذين يستسلمون له ويكرمهم، ويوسع عليهم، وغالباً كان يبقيهم على أعمالهم، لذلك أخذت المدن الأندلسية في الخضوع له، وتسليمه قيادها مدينة بعد أخرى، بداية من إشبيلية وسرقسطة، ونهاية بالعصاة في "بربشتر" عاصمة ابن حفصون المتمردة.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

النصارى يهاجمون بقيادة " أردينو الثاني "

 

* عام 302هـ 915م النصارى يهاجمون:

- كان عبد الرحمن الناصر يفضل دونما ريب (وهو في بداية عهده) عدم الدخول في معارك مع دول الشمال النصرانية، حتى يتفرغ لتصفية أعداء الداخل، لينطلق من قاعدة صلبة من الجنوب والوسط، إلا أن دول الشمال لم تترك له الفرصة، إذ قاد ملك ليون "أردينو الثاني" هجومه الكبير سنة 302هـ، ووصل بهذا الهجوم حتى مدينة "ماردة" وكان يحكمها "عبد الرحمن الجيليقي" واستولى على بعض القلاع، وأباد المدافعين عنها، ثم تابع تقدمه حتى "بطليوس" وهي من المدن المهمة التابعة لماردة، فأرسل أهلها وفدا ًمحملاً (بالفدية) مظهراً الطاعة، واكتفى أردينو بما حققه من نصر، وعاد وهو مثقل بالغنائم دون أن يواجه قوة، خشية إذ اقترب من منطقة قرطبة.

 

* الناصر يهاجم النصارى:

- وجد عبد الرحمن الناصر الفرصة مواتية لإظهار وحدة المسلمين وتلاحمهم ضد العدو المشترك (مملكة ليون)، فوجه جيشاً بقيادة وزيره "أحمد بن عبدة " مع بداية سنة 304هـ ، واصطدم بجيش مملكة ليون في عدد من المعارك الثانوية التي انتهت كلها بالنصر، وغنمت قوات المسلمين غنائم كبيرة، وعاد جيش قرطبة إلى قاعدته بعد أن ألحق أضراراً كبيرة في ممتلكات ليون وأراضيها.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

واجهة مدخل مجلس الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث في غرناطة

 

* عام304هـ 917م النصارى يدخلون طليطلة:

- وفي ربيع ذلك العام 304هـ تحالف "أردينو" ملك "ليون"، وشانجة "ملك "نافار" للقيام بعمليات ناجحة، فوصلت قوات التحالف إلى "طليطلة" ـ عاصمة الشمال وكانت مستقلة بيد بني ذي النون ـ فدخلت المدينة ومناطقها فأعملت فيها هدماً وإحراقاً وأذلت أهلها وأخذت منهم السبايا، وأحرقوا مسجدها، فأسكرتهم نشوة الانتصار هذه.

- كانت هذه الدويلات أمثال "طليطلة" نقمة ووبالاً على الإسلام والمسلمين في المغرب والمشرق والأندلس، إذ ما كانت باستطاعتها حماية أنفسها، بل كانت تجُدّ في المنازعات مع جيرانها، ليست إلا كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد، وتطمع دول النصارى دائماً بالهجوم عليها، وسفك الدماء وإتلاف الحرث والنسل، وأين من يوحدها ويجمعها؟

 

- وكان لابد من عمل عاجل، فيتحرك عبد الرحمن الناصر ليجمع الشتات، ويوحد القوات، ويجمع الدويلات المتفرقة، فرأى قبل أن يقوم بهذه المهمة توجيه ضربة لهذه الدول النصرانية التي لا تزال تثير الفتن والحروب، وتنشر الخوف والرعب في المسلمين قريبين منها كانوا أو بعيدين، فأرسل وزيره أحمد بن أبي عبيدة فخاض عدة معارك ثانوية أنتصر فيها وعاد بالغنائم.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

النصارى يدخلون منتصرين طليطلة

 

* عام 305هـ 918م نهاية ابن حفصون:

- وقدّر أن يموت "عمر ابن حفصون" - وكان قد تنصر ظناً منه أن ذلك يجلب له التأييد فكان العكس - في سنة 305هـ، فتفرقت حكومته بين أولاده، فقام "جعفر بن عمر" مكان أبيه في "بربشتر"، واستقل "عبد الرحمن بن عمر" في حصن "طَرَش"، بينما تمركز ابنه الثالث "سليمان" في مدينة " أَبْدة "، فكانت فرصة مناسبة إذ أسرع عبد الرحمن الناصر فوجه جيشه إلى "أبدة" واستولى عليها وأخذ سليمان أسيراً إلى قرطبة فأكرمه الناصر وعفا عنه وضمه إلى جيشه، أدى عفو الناصر هذا إلى أن يستسلم عبد الرحمن بن حفصون دون قتال ويعلن خضوعه للأمير الناصر.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

الأعمدة والأقواس داخل المسجد الكبير في قرطبة

 

* ثورة سليمان بن عمر بن حفصون:

- وتطورت الأحداث في جنوب الأندلس، حيث قتل جعفر بن حفصون في سنة 308هـ، فقام أخوه سليمان مكانه، وأقره عبد الرحمن الناصر على ولايته، ولكنه نكث عهده، وثار عليه، فأرسل الناصر عدة حملات سنوياً لإخضاعه، فامتنع جعفر في حصونه ولم تتمكن الحملات المتتابعة في كل سنة من إخضاعه.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

علبة من العاج للمغيرة أخ الحكم الثاني ( موجودة في متحف اللوفر في باريس )

 

* عام 308هـ - 920م معركة الفرَجَ:

- في عام 308هـ تقدم عبد الرحمن بنفسه يقود جنده وكتم الأخبار ليفاجئ مملكة "ليون" وحليفتها "نافار"، وأسرع الجند الأندلسي يتقدم نحو الشمال، إلا أن النصارى هناك كانوا على علم بتحركه، فأرسلت مملكة "جيليقية" حملة للعدوان على قرية "الفرج" - وهي منطقة حدودية - وعلى ريفها، فسيطر الجيش على الريف، واستولى على ما فيه من خيول وماشية، وتقدم للانقضاض على "الفرج" بالذات، لكن عامل هذه المنطقة استطاع أن يحشد كل الإمكانات المتوفرة، فاندفع جميع أهل المدينة من الفرسان والمشاة، حتى خرجت النساء أيضاً لمجابهة هذا العدو الغاشم، ودارت معركة قاسية انتهت بانتصار المسلمين انتصار حاسماً، وبدأ جيش "جيليقية" بالانسحاب فاندفع فرسان "الفرج" وأبطالها لمطاردته طوال النهار وأبادوا معظم قوات العدو، ودبت روح الأمل في نفوس المسلمين لما رأوا قدرة هذه المنطقة الصغيرة أن توقع الهزيمة المنكرة بجيش "جيليقية".

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

عبد الرحمن يقود جنده ليفاجئ مملكة " ليون "

 

* عام 308هـ - 920م الناصر يتوجه شمالاً:

- تابع الناصر بجيشه نحو الشمال، في الوقت الذي كانت فيه الحشود وقوات الدعم تتلاحق بصورة مستمرة من سائر الأندلس لتنضم إلى الأمويين، ولتزيد من قواتهم، حتى إذا توجه عبد الرحمن الناصر نحو "طليطلة" كان في استقباله حاكمها "لب بن الطربيشة" ومعه حامية المدينة التي انضمت فوراً إلى جيش المسلمين، فقد توحدت الأندلس ماعدا مناطق صغيرة لا يؤبه لها، لذلك قرر الناصر تكثيف الجهد القتالي وأخذ في الاستعداد لمعركة حاسمة مع خصمه "أردينو" ملك ليون فكانت غزوة "موبش"، هل قرأتم؟ أو سمعتم عن هذه الغزوة؟ غزوة "موبش"! من الغزوات المهمة في التاريخ الأندلسي، تقول: أين أنتم يا أحفاد المسلمين؟ هل جهلتم عزكم؟

 

* غزوة موبش:

* عام 308هـ 920م القاعدة في سالم:

- تقدم عبد الرحمن الناصر كما رأينا نحو الشمال حتى وصل إلى مدينة "سالم" وجعلها قاعدة لقواته وتوقف فيها لإعادة تنظيم قواته، ثم أرسل منها قوات أخضعت "إلبة" والقلاع التي حول مدينة "سالم"، حتى وصلت إلى نهر "دويرة"، وهو نهر يفصل بين مملكة النصارى وبين المسلمين يقع في الثلث الشمالي من الأندلس.

- فأرسل فرسانه بقيادة وزيره "سعيد بن المنذر" الذي تمكن من إخضاع "وخشمة" والرجوع بالغنائم، وقد أضرم فيها النار بعد أن كانت الحامية المدافعة عنها قد انسحبت.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

حدائق ساحرة داخل القصور

 

* حصن قاشتر:

- وفي صباح اليوم التالي انطلق عبد الرحمن إلى حصن "قاشتر" حيث كانت الأخبار عن سقوط حصن "وخشمة" في قبضة المسلمين قد انتشرت عبر الإقليم، مما أضعف الروح المعنوية في وسط الحاميات المدافعة، لذلك انسحبت حامية "قاشتر" عن الحصن وتخلت عنه دون قتال، فدخله المسلمون وغنموا ما فيه، وانطلقت مجموعات من فرسان المسلمين في اتجاهات مختلفة لتدمير جميع الحصون والقلاع، حتى لم يتركوا في تلك الجهة مكاناً يأوي إليها جند "ليون".

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

عازف العود واثنان من الموسيقيين مع آلاتهم

 

* مدينة قلونية:

- توجه الناصر بعد ذلك نحو مدينة "قلونية" من أمهات المدن التي تستخدمها قوات النصارى للإغارة على حدود المسلمين، فلم تجابه مقاومة كبيرة، وكان أهلها قد تركوها ولجأوا إلى الجبال المجاورة، فانطلق الجند يدمرونها ويحرقونه، ويغنمون ما فيها لتصبح نكاية لهم ولغيرهم، وأرسل من هناك أحد قواده "محمد بن لب" بمجموعة من الفرسان للإغارة على حصن "قَلَهُرَّة" فدخل الحصن الذي تركته الحامية خوفاً من المسلمين.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

طبق مدون عليه وآخر مرسوم عليه أسود متقابلة منقوش عليها بشكل زخرفي مصقول، مدينة الزهراء

 

* حصن قَلَهُرَّة:

- ثم تحرك الناصر بنفسه يقود بقية الجيش إلى حصن "قَلَهُرَّة" و لم تحاول حاميته الدفاع عنه بل انسحبت قبل قدوم المسلمين، فدخله المسلمون وأخذوا في تدمير منشآته وتحصيناته الدفاعية طوال يومين كاملين لإشاعة الهلع والخوف في نفوس الحاميات الأخرى المتواجدة في قلاع الأعداء المتناثرة، ثم عبر الناصر نهراً صغيراً يدعى "أبرة" نحو الشمال.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

قلهرة الحصن المنيع الشهير

 

* قتال نافار:

- جعل هذا التقدم الظافر للمسلمين ملكَ نافار "شانجة" ينطلق بنفسه لإيقافه محاولاً تدمير طلائع قوات المسلمين أثناء العبور، لكن قوات الفرسان في المقدمة تلقت صدمة هجوم النافاريين، واستطاعت إحباط الهجوم، وأخذت قوات شانجة بالانسحاب، مما جعل قوات المقدمة الإسلامية أن تلقي بثقلها في المعركة ونجحت في تحويل انسحاب العدو إلى هزيمة وانطلق الفرسان إلى مطاردة فلول العدو الممزقة ثم عادوا إلى مركز تجمع القوات بعد العبور لإعلام عبد الرحمن وإطلاعه على الموقف.

- استطاعت مقدمة الجيش الأندلسي إلحاق الهزيمة بجيش العدو "مملكة نافار" فكيف إذا لاقاهم جيش عبد الرحمن الناصر. ثم انطلق عبد الرحمن الناصر في تقدمه عبر إقليم "نافار" بجيشه إلى المناطق الجبلية، وكان قد أمّن الأطراف والممرات بمفارز الاستطلاع لحماية أجناب الجيش والمؤخرة، فتجاوز المناطق الجبلية والمضائق بأمان، ووصل إلى منطقة سهلية، فأمر عسكره بالتوقف وإقامة المعسكر للاستراحة.

 

* معركة موبش:

- وفي هذا السهل بدأ تدفق جيش"ليون" و"نافار"، ودارت معركة كبيرة وانتهت بهزيمة التحالف النصراني فهربوا لا يلوون على شيء، ولا يهتدون إلى أين ينهزمون، والمسلمون على آثارهم يقتلون من أدركوا منهم حتى حجز الظلام بينهم، وكان حصن "موبش" قريباً من ميدان هذه المعركة وهو حصن يتميز بدفاعاته.

- فهرب أكثر الجيش إليه، فما كان من الناصر إلا أن طوّق الحصن واستخدمت قواته تجهيزات الحصار من المناجيق وغيره، ثم اندفع المسلمون فاقتحموا الحصن وأسروا من فيه من المقاتلين فأمر الناصر بضرب رقابهم جميعا، وغنم المسلمون ما في الحصن من غنائم كثيرة، فتوقف خشية أن يوغل في بلاد الأعداء، وليعيد ترتيب أموره وتنظيم جيشه، وقد أحرق معاقل النصارى النافاريين حتى لا يستفيدوا منها ثانية.

- استمرت غزوة "موبش" ثلاثة أشهر، يفتح الناصر فيها معظم الحصون ويخترق في عمق الدولة المعتدية "نافار"، ثم عاد إلى قرطبة بعد أن تفقد أحوال الثغور واجتمع بقادته، عزّ وأي عزّ بعدما كان من تدهور الأحوال!.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

النصارى يبدؤون الهجوم على جيش المسلمين في معركة موبش

 

* عام 305هـ - 918م معركة سانت استيفان:

- وفي عام 305هـ تقدم "أردينو" حاكم "ليون" من "القوط"، بجيش كبير نحو إقليم "طلبيرة" واستطاع أن يستولي على معظم الإقليم، وكان قد بدأ سياسة جديدة سيئة -سياسة الأرض المحروقة- فيأخذ الغنائم، ويحرق المدن والقرى والأرياف، إذ لم يبق في شمال الأندلس مسلم واحد، بقي القوط أحراراً في أرض المسلمين، وانظر ما بفعله القوط و "أردينو"! .. فكل إناء بالذي فيه ينضح، وانظر إلى أخلاقنا وأخلاقهم، فأرسل الناصر جيشاً بقيادة "أحمد بن أبي عبدة" وكانت وجهته نحو "سانت استيفان" وكانت من أقوى الحصون فجاء "أردينو" بجيش يقوده بنفسه لأهمية هذا الحصن أرسل يطلب المدد من الدول النصرانية، فتجمعت قوات لهم كبيرة متوجهة نحو حصن "سانت استيفان"، لإنجاده وإنقاذه من المحاصر "أحمد بن أبي عبدة"، فأمر "أحمد بن أبي عبدة" جيشه بالانسحاب لمعرفته أنه لا يمكن لقواته القليلة من مواجهة الأعداد الهائلة القادمة، لكنه صمد هو ومجموعة من قادته وأعداد قليلة من المقاتلين حتى أبيدوا إبادة تامة، وتمكنت بقية القوات من الانسحاب بكامل قواتها وأسلحتها.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

أردينو " يقود جيشه بنفسه ضد جيش الناصر بقيادة " أحمد بن أبي عبدة "

 

* عام 306هـ - 919م هزيمة النصارى:

- وفي العام التالي في عام 306هـ أرسل الناصر حاجبه "بدر بن أحمد" بجيش يأتيه الرفد من المناطق الأخرى حتى وصل هذا الجيش إلى حدود مملكة ليون. فأرسل النصارى في الشمال طلائعهم ليصدوا المسلمين أو يعيقونهم من التقدم، ولكن الطلائع الإسلامية استطاعت تمزيق تلك الطلائع المعادية، أما اللقاء بين الجيشين فقد تم في مكان قريب من "مدونية" أو "مطونية"، وجرت معركة عظيمة، وتمكنت القوات الإسلامية من إحراز النصر بالرغم من ثبات قوات ليون واستماتتها في القتال، فسحقت قوات الشمال، وهزمها هزيمة منكرة، حتى إنه لم تتمكن سوى وحدات قليلة معادية من مغادرة ميدان المعركة، والفرار بعيداً تنجو من أهوال المعركة.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

منظر جميل لقاعة العدالة ويبدو السقف وقد رسم عليه ملك الناصر

 

* النصارى يقتحمون بقيرة:

- كان من بعض ما تركته هذه الغزوة من النتائج ظهور حالة انهيار معنوي كبير في وسط سكان الثغور النصرانية المتاخمة لحدود إمارة الناصر، لذلك أراد "شانجة" ملك "نافار" أن يقوم بأعمال عدوانية لمعالجة تلك النفوس، فتقدم عام 311هـ على رأس جيش كبيرة في اتجاه مدينة "بقيرة" وما استطاعت حاميتها الصغيرة بقيادة "ابن لب" ومعه "مطرف بن موسى" من بني ذي النون من الصمود طويلاً في الدفاع، واستطاع "شانجة" اقتحام المدينة وإبادة حاميتها وقتل قادتها جميعاً -ابن لب وأبناء ذي النون-.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

النصارى يدخلون بقيرة

 

* الناصر يرد:

- فأراد الناصر وقد بلغه تجاوز الأعداء في الشمال، وعبورهم وادي "دويرة" وإثارة الخراب في أرض المسلمين أن يوقفهم عند حدودهم، وأن يزحف هو على رأس جيش بعد أن أرسل مقدمة بمهمة مجابهة قوات الشمال وإحباط هجماتها جيشاً يقوده "عبد الحميد بن سُبيك"، الذي وصل إلى "تطيلة" وأوقف العدوان هناك.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

عبد الحميد بن سبيك يقود جيشا وصل به إلى " تطيلة "

 

* ثورات ضد الناصر:

- وأراد عبد الرحمن الناصر تحقيق المباغتة والإسراع في تنفيذ العمليات لردع الأعداء فخرج من قرطبة على رأس جيشه الكبير عام 313هـ، وأقام قريباً من قرطبة لتنظيم القوات القادمة في منطقة الحشد وإعدادها للمعركة الفاصلة، في هذه الأثناء تحرك بعض الطامعين في الحكم ولم يقدّروا الخطر الحقيقي الذي يهدد وجود الإسلام والمسلمين في الأندلس، فثار في الجنوب "بتدمير" عبد الرحمن بن وضاح، كما أعلن العصيان في "بلنسية" شرقاً محمد بن عبد الرحمن بن الشيخ، فأصبح الناصر بين أعداء متفرقين حيث كان في الشمال: القوط ، وفي الجنوب "تدمير" وثائرها، بالإضافة إلى ثورة ابن حفصون نشأت من جديد بقيادة ابنه في "بربشتر" عاصمة الجنوب الشرقي.

 

* الهجوم العظيم:

- لذلك توجه بجيشه نحو "تدمير" وانطلق منها إلى "بلنسية"، فنزل الثائرون من معاقلهم ولكن الناصر استطاع أن يخمد ثورتهم ما عدا "ابن الشيخ" الذي أصر على التمرد، فخشي الناصر أن ينتهز النصارى القوط ابتعاده، فترك حامية لحصار "ابن الشيخ" وانطلق بجيشه هو نحو "تطيلة" فلما وصل إلى حصن "قليقرة" وجده خالي، فأمر بتدمير وإحراق جميع ما فيه (يرد على ما فعله "شانجة"سابقاً)، كذلك كان العدو قد أخلى جميع الحصون والقلاع وكانت حاميتها قد تركت متاعها ومواردها التموينية فغنمها المسلمون، وهدموا الحصون التي كانت في تلك الجهة.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

شكل يمثل القاعات التحصينية الوقائية في مبنى الناصر الحربي حيث يتم سكب الزيت أو الرصاص المذاب من البرج على أي أعداء يحاولون كسر باب القوس أسفلهم

 

* عام313هـ 925م مضيق المركوير:

- وتقدم الناصر بعد أن اجتاز السهول فوصل بقواته إلى منطقة الجبال وكان عليه أن يعبر بجيشه الجرار "مضيق المَرْكوير" بين السلاسل الجبلية الشاهقة، وهو أمر صعب بالغ الخطورة، فخشي من المباغتة، فأعاد الناصر تنظيم قواته للمسير في تلك المناطق، ودعم المقدمة والمجنبات والمؤخرة بقوات من الفرسان، وفعلاً استطاع أن يعبرها على أسلم طريقة وقطع تلك الجبال إلى أن وصل مدينة "بشكسونة" وإليها ينسب "شانجة"، فأحرق الناصر مبانيه، كان "شانجة" قد حشد قواته في المرتفعات الجبلية، وأخذ في متابعة تقدم جيش الناصر لعله يجد منه غرة، مما جعل عبد الرحمن الناصر يتابع تحركاته أيضا، فدفع عناصر الاستطلاع في كل اتجاه، وأمر القادة بالحذر، وأخذ تدابير الأمن.

 

* هجوم نافار:

- وعندما وصلت قوات المسلمين إلى المضيق الضيق الصعب أخذ فرسان "نافار" الهبوط  من  الجبال، والانحدار من المرتفعات لإيقاف تقدم المسلمين، فأمر الناصر بالهجوم، وانطلقت القوة الرئيسية بهجومها فعبرت النهر، ولم تستطع قوات "نافار" الصمود في مواضعه، فاقتلع المسلمون أعدائهم، ووضعوا السيوف فيهم ففروا إلى جبل وعر، فاقتحم المسلمون عليهم وبسطت الأرض بأجسادهم حتى كانت الخيول تجري عليهم مثلما قال المؤرخون.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

منظر حي الأذرع أو حي سكن الضباط من برج المراقبة

 

* دخول العاصمة بنبلونة:

- وتقدم الناصر إلى أن وصل بقواته إلى مدينة "بنبلونة" أهم مدن مملكة "نافار" وهي عاصمته، لا يمر بمكان إلا دمره، ولا بقرية إلا هدمه، وأزال المواقع المحصنة به، وكان أهل "بنبلونة" قد غادروه، كما قد انسحبت الحامية المدافعة عنه، فدخلها الناصر لدين الله وأمر بتدميرها وتخريب مبانيها.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

بقايا مدينة الزهراء

 

* صخرة قيس:

- وكان "شانجة" ملك نافار قد شيد كنيسة كبيرة أنفق عليها الأموال الكثيرة في مكان يسميه المسلمون "صخرة قيس" وكان قد حصنها تحصيناً قوياً كما عمل على حشد قوات كبيرة في الجبال والمرتفعات المشرفة على هذه الصخرة، فوصل إليها الناصر بسرعة وفي لحظة طرف اقتلع المسلمون جيش "نافار" وصرعوا من فرسانه ووجوه أصحابه من كان عوناً للملك "شانجة"، وأمر الناصر بإحراق القرية وما فيها.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

رأس عمود: قرطبة أو مدينة الزهراء

 

* فرار الملك:

- لم يتوقف "شانجة" عن محاولة تنظيم قواته، وتنظيم قوات الدعم التي كانت تأتيه من "إلبة" والقلاع عند حصن يدعى "شنت اشتبين" لشن هجوم مضاد على جيش الناصر المتقدم، فدارت معار كقاسية أظهر فيها المتصارعان عناداً في القتال وبأساً شديد، ولكن المسلمين استطاعوا انتزاع النصر في النهاية، ومضوا يلاحقون جيش "نافار" الذي فر نحو المرتفعات الجبلية وكذلك فعل الملك النافاري "شانجة".

- أخضع الناصر جميع القلاع والحصون في الشمال حتى إنه أحرق العاصمة "بنبلونة" ومزق جيش "نافار" وجعل ملكها فاراً يبحث عن مأوى في الجبال، إنها العزيمة الصادقة تفعل الأفاعيل.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

الناصر يقود الجيوش ويلاحق النصارى بنفسه

 

* صراع بين النصارى:

- ورجع الناصر إلى قرطبة..ومات "شانجة" في سنة 314هـ، وكان ولي عهده "غرسيه" صغير، لذلك قامت جدته التي تدعى "طوطة" بالوصاية عليه.

- رأى أحد قواد "نافار" ويدعى "فرزلند" تسلط "طوطة" على الحكم واستئثارها به فتحالف مع ملك ليون "أردون بن روزيد" ضد "غرسيه" وجدته، مما جعل "طوطة" وحفيدها وأنصارهما يتوجهون إلى "قرطبة" يستنصرون بالأمير عبد الرحمن الناصر وهكذا الأيام دول.

- فوجد فرصة للإيقاع بهم، ويعيد الحكم إلى "طوطة" بمساندتها بقوات من جنده، وتتولى هي وحفيدها ملك "نافار" مرة أخرى.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

احتدام صراع النصارى فيما بينهم

 

* نهاية ثورة ابن حفصون:

- في هذه الأثناء تطورت الأحداث في "بربشتر" عاصمة الجنوب الشرقي التي كانت تحت قبضة ابن حفصون وأولاده من بعد، حيث وجه الأمير عبد الرحمن جند الأندلس بقيادة وزيره "عبد الحميد بن سبيل"، وخرج "سليمان بن عمر حفصون" للقائه فهُزمت قوات ابن حفصون وقُتل سليمان، فخلفه حفص أخوه، واستمر على المقاومة، لكنه اضطر في النهاية إلى الاستسلام، فأخذ أسيراً إلى "قرطبة"، وعفا عنه الناصر وضمهّ إلى جيشه، وانتهى هذا التمرد الذي دام سبعة وأربعين عام، وخضعت عاصمة الجنوب للأمويين.

 

- لم يكن ابن حفصون ثائراً عادياً يعتمد على أساليب العنف والبطش فقط، وإنما بذكائه أعلن أنه صاحب دعوة سياسية يطلقها بين الذين يحسون أنهم مضطهدون في دولة تحكمها فئة لا تلتفت إلى مصالح أولئك المنتمي إلى أعراق وجنسيات عديدة في المجتمع،  وهؤلاء على الأغلب في فترات التاريخ كانوا يحتفظون بنزعة استقلالية، يظهرونها إذا ضعفت الإدارة المركزية، أو إن وجد من يجمعهم في صف واحد وراية واحدة للقيام بالعصيان، هذا من جهة.

 

- ومن جهة أخرى فإن الذين يعتنقون الإسلام لا عن علاقة وطيدة بالمسلمين ولا عن اعتقاد سليم متين يبطنون نحلهم ومذاهبهم متربصين بالإسلام والمسلمين الدوائر، فجمع ابن حفصون لذلك عشاق الفوضى والقلاقل والإضرابات، كما جمع أدعياء الظلم والعسف والجور الذي لحق بهم من السلطان وأعوانه.

 

- وهل كانت الثورات التي قامت في المشرق الإسلامي أو المغرب أو في الأندلس إلا من تلك الفئات التي عرفت بالباطنية في تاريخنا؟ كثورة الزنج، أو القرامطة، أو ثورة ابن حفصون.

 

القتال والجهاد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر

مدخل مجلس الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث في غرناطة

مواضيع ذات صلة

إضف تعليقك

فضلا اكتب ماتراه فى الصورة

تعليقات الزوار (0)

ملاحظة للأخوة الزوار : التعليقات لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع لفلي سمايل أو منتسبيه، إنما تعبر عن رأي الزائر وبهذا نخلي أي مسؤولية عن الموقع..