* أُم سلمة، وما أدراك ما أم سلمة ؟!
أما أبوها فسيد من سادات مخزُوم المرموقين ، وجواد من أجود العرب المعدودين ، حتّى إنه كان يُقال له: (زادُ الراكب) ، لأن الرُكبان كانت لا تتزود إلا إذا قصدت منازلَهُ أو سارت في صُحْبتِه.
وأمّا زوْجُها فعبد الله بن عبد الأسدِ أحد العشرة السابقين إلى الإسلام؛ إذ لم يُسلم قبلَه إلا أبو بكر الصديق ونفَرٌ قليل لا يبلغ أصابع اليدين عدداً.
وأمّا اسمها فهِنْد لكنّها كنِّيَت بأُم سَلَمة ، ثُم غلَبت عليها الكنية.
* * *
- أسلمت أم سَلمة مع زوجها فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام أيضا وما إن شاع نبأ إسلام أم سلمة وزوجها حتى هاجت قُريش وماجت ، وجعلت تصُبُّ عليها من نكالِها ، ما يُزلزل الصُمّ الصِّلاب ، فلم يضعُفا ولم يهِنا ولم يترددا.
ولما اشتد عليهما الأذى وأذِن الرسول صلوات الله عليه لأصْحابِه بالهِجرة إلى الحبشة كانا في طلِيعة المُهاجرين.
* * *
- مَضت أم سَلَمة وزوْجُها إلى ديار الغُربة وخلَّفت ورائها في مكَّة بيتها الباذِخْ ، وعِزّها الشامخ ، ونسبها العريق ، مُحتسِبة ذلك كلّه عند الله ، مستقِلّةً لهُ في جنبِ مرضاته.
وعلى الرّغم ممّا لقِيته أم سلمة وصحْبُها من حمايَة النجاشي نضّر الله في الجنّة وجْهَهُ ، فقد كان الشوْقُ إلى مكّة مهبط الوَحي ، والحنين إلى رسول الله مصْدَر الهُدى يفْرِي كبِدَها وكبِد زوجها فرُياً.
ثمّ تتابعت الأخبارُ على المُهاجرين إلى أرض الحبشة بأن المسلمين في مكّة قد كثُر عددهم ، وأن إسلام حَمزة بن عبد المُطلِب ، وعُمر بن الخطّاب قد شدّ من أزرِهِم وكفّ شيئا من أذى قريشً عنهُم فعزِم فريقٌ منهم على العودة إلى مكة يحدوهم الشوق ، ويدعوهم الحنين ... فكانت أُم سلَمة في طليعة العائدين.
* * *
- لكن سُرعان ما اكتشف العائدون أن ما نُمِي إليهم من أخبار كان مُبالغاً فيه ، وأن الوثْبة التي وثبها المسلِمون بعد إسلام حمزة وعُمر ، قد قوبلتْ من قريش بهَجمةٍ أكبر.
فتفنن المُشركون في تعذيب المُسلمين وترويعِهِم وأذاقوهُم من بأسِهم ما لا عهْدَ لهُم به من قبل.
عند ذلك أذن الرسول صلوات الله عليه لأصحابه بالهجرة إلى المدينة ، فعَزمت أم سلَمة وزوجُها على أن يكونا أول المُهاجرين فِراراً بدينهما وتخلصا من أذى قُريش لكن هجرة أم سلَمة وزوجها لم تكُن سهلة ميسرة كما خيِّل لهُما ، وإنمّا كانت شاقّة مُرَّة خلَّفت ورائها مأساة تهونُ دونها كل مأساة.
فلنترك الكلام لأم سَلَمة لتروي لنا قِصَّة مأساتِها ...
فشعورها بها أشدُّ وأعمق ، وتصويرها لها أدقُّ وأبلغ.
- قالت أم سلَمة:
لما عزم أبو سلَمة على الخروج إلى المدينة أعد لي بعيراً ثمّ حملني عليه وجَعل طفلَنا سَلَمة في حجري ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء.
وقبل أن نفصِل عن مكّة رآنا رجالٌ من قومِ بني مخزوم فتصَدّوا لنا وقالوا لأبي سلمة إن كُنت قد غلبتنا على نفسِك ، فما بالُ امرأتك هذه ؟!
وهي بنتُنا ، فعلامَ نترُكك تأخذها منّا وتسير بها في البلاد ؟!
ثم وثبوا عليه ، وانتزعوني منه انتزاعا.
وما إن رآهُم قوم زوجي بنو عبد الأسد يأخذونني أنا وطفلي حتّى غضِبوا أشد الغضب وقالوا: لا والله لا نترُك الولد عند صاحبتكم بعد أن انتزعتموها من صاحِبنا انتزاعا ...
فهُو ابننا ونحن أولى به.
ثُم طفِقوا يتجاذبون طفلي سلّمَة بينهم على مشهَدٍ مني حتى خلَعوا يده وأخذوه.
وفي لحظاتٍ وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة: فزوجي اتجه إلى المدينة فرارا بدينه ونفسِه ...
وولدي اختطفه بنو عبد الأسد من بين يدَيّ مُحطماُ مهيضاً.
أما أنا فقد استولى عليّ قومي بنو مخزوم ، وجعلوني عندهم ..
ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني في ساعة.
ومنذُ ذلك اليوم جعلت أخرجُ كلّ غداة إلى الأبطَح فأجلِس في المكان الذي شهد مأساتي وأستعيد صورة اللحظات التي حيْلَ فيها بيني وبين ولدي وزوجي وأظَلُّ أبكي حتى يُخيِّم عليّ الليل ، وبقيت على ذلك سنة أو قريب السنة إلى أن مرّ بي رجُلٌ من بني عمِّي فرقَّ لِحالي ورحِمني وقال لبني قومه: ألا تُطلقون هذه المِسكينة !! فرّقتُم بينها وبين زوجها وبين ولدِها.
ومازال بهم يسْتَلْيُن قلوبهُم ويستَدِرُّ عطفهُم حتى قالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت.
ولكن كيف لي أن ألحق بزوجي في المدينة وأترُك ولدي فِلذَة كبِدي في مكّة عند بني أسد ؟!
كيف يُمكن أن تهدأ لي لوعةُ أو ترقا لعيني عبرة وأنا في دار الهجرة وولدي الصغير في مكة لا أعرف عنه شيئا ؟!!
ورأى بعض النّاس ما أُعاني من أحزاني وأشْجانِي فرقَّت قُلوبهم لحالي ، وكلموا بني عبد الأسد بشأني واستعطفوهم عليّ فردُّوا لي ولدي سلَمة.
* * *
- لم أشأ أن أتريث في مكّة حتى أجد من أسافِر معَه ؛ فقد كُنت أخشى أن يحدُث ما ليس بالحُسبان فيمنعوني عن اللّحاق بزوجي لعائق ...
لذلك بادرت فأعددت بعيري ووضعت ولدي في حجري وخرجْتُ متوَجهةً نحو المدينة أُريد زوجي وما معي أحدٌ من خلق الله.
وما إن بلغت التنعيم حتى لقيت عُثمان بن طلحة فقال: إلى أين يابنت زاد الراكب فقُلتُ أريد زوجي في المدينة.
قال: أوَما معكِ أحد ؟!ّ
قلت: لا والله إلا الله وبُنيّ هذا.
قال: والله لا أتركك أبدا حتى تبلغي المدينة ثم أخذ بخِطام بعيري وانطلق يهوي به ...
فو الله ما صحِبت رجُلا من العرب قَط أكرمَ منه ولا أشرف: كان إذا بلغ منزل من المنازل ينيخُ بعيري ، ثُم يستأخرُ عني ، حتّى إذا نزلت عن ظهرِه واستويت على الأرض دنا إليه وحط عنه رحلَه ، واقتاده إلى شجرة وقيّدهُ فيها ...
ثمّ يتنحى عني إلى شجرة أخرى فيضطجع في ظلِّها فإذا حان الرّواح قام إلى بعيري فأعدَّه ، وقدَّمَهُ إليّ ثُم يستأخِرُ عني ثم يقول اركبي ، فإذا ركبت واستويتُ على البعير ، أتى فأخذ بِخِطامِه وقاده.
* * *
- ومازال يصنعُ بي مثلُ ذلك كل يوم حتّى بلغنا المدينة فلّما نظر إلى قرية بقُباء لبني عمرو بن عوف ، قال: زوجك في هذه القرية ، فأدخليها على بركة الله ، ثُم انصرف راجِعاً إلى مكة.
* * *
- اجتمع الشملُ الشتيت بعد طول افتراق ، وقرَّت عينُ أم سلَمة بزوجِها وسعِد أبو سلمة بصاحِبته وولده ... ثم طفِقَت الأحداث تمضي سراعا كلمح البصر.
فهذه بدر يشهدها أبو سلَمة ويعود منها مع المسلمين وقد انتصروا نصراً مؤزَّرا.
وهذه أُحُد يخوضُ غِمارَها بعد بدر ، ويُبلي فيها أحسن البلاء وأكرمَه ، لكنّه يخرُج منها وقد جُرح جرحا بليغا ، فما زال يُعالجه حتى بدى له أنه قد اندمل ، لكن الجُرح كان قد رُمَّ على فسادٍ فما لبِث أن انْتَكأَ وألزم أبا سَلمَة الفراش.
وفيما كان أبا سلَمَة يَعالَج من جُرحه قال لزوجِه: يا أم سلَمة سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تصيب أحداً مُصيبةٌ ، فيستَرْجع عند ذلك ويقول:
اللهم عندَك احتسبْتُ مصيبتي هذه ، اللهم اخلفني خيراً منها ، إلا أعطاه الله عزَّ وجل ...
* * *
- ظلّ أبو سلَمة على فراش مرضه أياما وفي ذات صباح جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلّم لِيَعودَهُ ، فلم يَكد ينته من زيارته ويُجاوز باب دارَه حتى فارَق الحياة.
فأغمض النبي عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين عيني صاحبه ، ورَفعَ طرفه إلى السماء وقال: ( اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقرّبين , واخلُفْهُ في عَقْبِه في الغابرين ، واغفر لنا ولهم يارب العالمين , وافسح له في قبره , ونوِّر له فيه ).
أمّا أم سلمة فتذكرت مارواه لها أبو سلَمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: اللهم عندك أحتسب مصيبتي هذه ..
لكنها لم تطب نفسها أن تقول اللهم اخلفني فيها خيراً منها لأنها كانت تتسائل ومن عساه أن يكون خيرا من أبي سلمة ؟!
لكنّها مالبثت أن أتمّت الدعاء ...
* * *
- حزن المسلمون لمُصاب أم سلمة كما لم يحزَنُوا لِمُصاب أحدٍ من قبل ، وأطلقوا عليها اسم: أِّيم العرب ( الأيم: هي المرأة التي فقدت زوجها ) ... إذ لم يكُن لها في المدينة أحدٌ من ذويها غير صبيةٍ صغار كزُغْب القَطا ( أي كفراخ القطا التي لم ينبت ريشها ).
* * *
- شعر المُهاجرون والأنصار بحقِّ أم سلمة عليهم ، فما كادت تنتهي من حدادها على أبي سلمة حتى تقدّم منها أبو بكر الصدّيق يخطبها لنفسه ، فأبت أن تستجيب لطلبه ...
ثم تقدّم منها عمر بن الخطّاب فردّته كما ردّت صاحبه ثم تقدّم منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت له:
يارسول الله ، إن فيّ خِلالاً ثلاثاً ..
فأنا امرأة شديدة الغيرة ، فأخاف أن ترى مني شيئا يُغضبك فيُعذبني الله به..
وأنا امرأةٌ قد دخلت في السِنِّ أي ( جاوزتُ سن الزواج )..
وأنا امرأةٌ ذات عيال.
- فقال عليه الصلاة والسلام:
( أما ما ذكرتِ من غَيرتك فإني أدعو الله عزّ وجل أن يُدهيها عنكِ , وأما ما ذكرت من السّن فقد أصابني مثل الذي أصَابك , وأما ما ذكَرتِ من العيال ، فإنّما عيالُك عيالي ).
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أُم سلمة فاستجاب الله دعائها ، وأخلفها خيراً من أبي سلَمَة.
ومنْذُ ذلك اليوم لم تبقَ هند المخزُوميَّة أُمّا لسلَمة وحده , وإنما غدَت أمَاً لجميع المُؤمنين.
- نضّر الله وجهُ أمّ سلَمة في الجنّة ورضي الله عنها وأرضاها.
شكرا جزيلا على القصة بارك الله فيكم