د. عبد الله الصالح العثيمين
* يدرك كاتب هذه السطور أن سرطان الذل قد بدأ ينتشر في جسم أمتنا منذ ربع قرن أو يزيد، وكنت قد أشرت إلى ذلك الذل المستشري في أبيات من إحدى القصائد، مشيراً إلى تجارب هذه الأمة مع زعاماتها،قائلاً:....
كم جرَّبت من قياداتٍ فما لقيت *** من الشعارات إلا الزَّيف والكذبا
كلٌٌ تحدَّث عن فجر بشائره *** نشوى تُقبِّل خد الأمة التَّربا
فتبعث الأمل المنشود مؤتلقاً *** يمزِّق الفقر والإذلال والسغبا
ما أعذب القول! لكن لم نجد صلة *** بين الأقاويل والأفعال أو نسبا
الفقر والجوع ما زالت سيوفهما *** على الجماهير أمضى صفحة وشبا
والذل! من يدَّعي عزاً وأمته *** أضحى يدوس حماها أسوأ الغُرّبا؟
- وكنت قد تحدثت عن ذلك الذل في مقالة نشرت في هذه الصحيفة الغراء قبل ثماني سنوات، ومما ورد فيها:
لقد بلغت النزعة العرقية لدى الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني درجة يصعب وصفها، تقتيلاً وإذلالاً، فهناك تقتيل وحشي لأبرياء ورموز مقاومة، وهناك إذلال لجميع فئات ذلك الشعب بمن فيهم من قدَّم لهم تنازلاً بعد آخر. وكل ذلك يتم بدعم ومباركة من المتصهينين في أمريكا خاصة وفي الغرب عامة. ومع أن وسائل الإعلام المختلفة تعرض بعضاً من صور التقتيل والإذلال فإن الدول التي تدَّعي زوراً وبهتاناً أنها تدافع عن حقوق الإنسان لم تحرِّك ساكناً. بل إنها - إلا ما ندر منها- باركت تلك الجرائم بطريقة من الطرق. ومع تقدير كاتب هذه السطور لوجود أفراد من الغربيين الذين أملت عليهم ضمائرهم الإنسانية الحيَّة أن يعلنوا مواقفهم العادلة فإنه لم يقتنع في يوم من الأيام أن الدول الغربية يمكن أن تقف على الحياد بين أمتنا وأعدائها، ولم يأمل قط في صد عدوان أولئك الأعداء إلا بصدق الإيمان بالله ثم بتوحيد المواقف الفاعلة تجاه قضاياها.
- على أن ما هو مؤلم حقاً أن يوجد بين العرب من لم تؤثر صور التقتيل والإذلال لبني جلدتهم في نفوسهم، ولم تزدهم إلا تمادياً في تعبيرهم عن تأييدهم للنهج المخالف لثوابت أمتهم، وأن يوجد بينهم من ظلوا يعمهون في خطل آرائهم المتمثلة في استجداء عطف من لا يكنون أي عطف عليها.
- على أن نشر هذه المقالة يتزامن مع مناسبتين سبق أن تحدَّثت عنهما، شعراً أو نثراً. أما المناسبة الأولى فهي انقضاء عام وبداية عام آخر. وكنت قد عبَّرت عنها بقصيدة عنوانها (تساؤلات أمام العام الجديد). ومما ورد فيها على لسان جريح فلسطيني يراقب حفلة رأس السنة قائلاً:
وعلى بوابة الحفل جريح يتساءل:
أيّ عام ذلك العام الجديد؟
ما الذي يحمل من أسرار بيداء الزمان
السرمدية؟
كنت بالأمس أغنِّي
لتباشير السمر
كنت أشدو
مثلما تشدو ملايين البشر
كلما لاحت على الكون
رؤى عام جديد
في فلسطين بيارق
أن تعيد القدس
من جيشي فيالق
أن أرى يافا الشجيَّة
تتباهى
مثلما كانت عروساً عربية
كنت أرجو
كنت أحلم
كل عام مرَّ بي نهر مصائب
ينقضي عام ويمضي
بعده عام وعام
وأنا أغرق في نهر المصائب
وانقضى بالأمس عام
وئدت فيه أحاسيس الكرامة
علمتني فيه أمريكا المهانة
علَّمتني كيف أصغي
لترانيم اليهود
كيف تختار الزعامات
لشارون اليهود
كيف تهدي جنود المحتل
باقات الورود
- قد تتغير وجوه الصهاينة في زعامتهم، لكنها كلها وجوه مجرمة، وقد تتغير الوجوه وتتبدل في زعامة أمريكا، لكنها جميعاً وجوه طابعها التصهين، إيماناً عقدياً أو خضوعاً اضطرارياً.
- وأما المناسبة الثانية المتزامنة مع نشر هذه المقالة فهي مرور عام على المجزرة العدوانية الصهيونية على غزة المؤيدة تأييداً غير محدود من الإدارة الأمريكية المتصهينة عقيدة حينذاك. وكانت مواقف أكثر القيادات العربية مواقف مخجلة تدل على إدمانها الذل وشربها كؤوسه حتى الثمالة. وها هي ذي أمة أمجاد يا عرب أمجاد تحلُّ بها مناسبة عام على المجزرة الرهيبة.. عام رأت خلاله ما لا يكاد يصدق من مواقف فحصار خانق ظالم يشارك في فرضه كثيرون هدفه الأكبر إخضاع روح المقاومة للاحتلال الصهيوني، وإجراءات بلغت قسوتها منع غربيين؛ حقوقيون وأطباء، أرادوا، نبلاً وإنسانية، توثيق جرائم الحرب الصهيونية من العبور إلى تلك البلدة، ومنع قوافل تضامن سلمية مع أهلها من الوصول إليهم. وها هي ذي سطور المقالة تنتهي صباح يوم السبت وكاتبها لا يدري أتستطيع إحدى تلك القوافل الوصول إلى هدفها أو لا تستطيع. ولله عاقبة الأمور في هذه الدنيا ويوم يبعث من في القبور.
مازال أمام العالم العربي ... أجيال وأجيال ليستعيد كرامته عندما يمشي على الصراط المستقيك الذي وضعه الله له ويتمسك بالمنهج السليم الذي أنزله الله على نبيه هدانا الله ....